نعم .. نرفض التدخل الأجنبي في تقرير مصير وطننا أيا كان مصدر هذا التدخل، وسواء جاء من الرئيس الأمريكي وأركان ادارته، أو من مرشد الثورة الايرانية، أو من غيرهما في الشرق أو الغرب. فليس من حق أحد مهما كان أن يملي علي شعب مصر ما يراه، والملايين التي خرجت تطلب التغيير وتنشد العدل والحرية لم تفعل ذلك اعتمادا علي الأخ أوباما أو طلبا لرضا مرشد الثورة الايرانية.. بل لأنها تريد وطنا تكون هي وحدها التي تقرر مصيره وتصنع مستقبله.. وليس هذا أمرا طارئا علي مصر، ولكنه واحد من الثوابت الأساسية للعمل الوطني علي مر العصور.. كان خلالها شعب مصر العظيم يرحب بالصداقة ويرفض الاملاءات، وكان يدرك أن ثمن الاحتفاظ بالاستقلال كبير، وكان يدفعه عن طيب خاطر حين يواجه الضغوط والمؤامرات ويخوض المعارض ويقدم الشهداء من أجل أن تظل الكلمة الأولي والأخيرة في مصير مصر هي لشعبها.. ولشعبها وحده. ومع ذلك، فإن محاولات التدخل الأجنبي في الأزمة الراهنة والتي بلغت أحيانا حد الوقاحة، والتي تجمع مصر كلها علي رفضها.. هذه المحاولات لابد أن تثير العديد من الأسئلة حول السياسات التي اتبعناها في السنوات الماضية والتي أدت إلي ما نحن فيه.. فمن ناحية نحن أمام عالم يدرك جيدا أهمية مصر بالنسبة للمنطقة والعالم، ويحاول التعامل مع هذه الحقيقة من أجل تأمين مصالحه، بينما كنا نحن للأسف الشديد نفرط في هذه المكانة ونتخلي عن دورنا المحوري في المنطقة، ونترك الوطن العربي يتخبط في غياب مصر، ونترك الساحة لقوي عالمية (مثل أمريكا) تسعي للهيمنة علي المنطقة، ولقوي اقليمية تزايد دورها وتوسع نفوذها في غياب مصر. وفي ظل هذه السياسات كان طبيعيا أن يختل التوازن في العلاقات مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، وأن تحاول توسيع نفوذها، وأن تدس أنفها في أدق شئوننا الداخلية، وأن تحاول استخدام المعونة التي تقدمها لمصر منذ كامب ديفيد ومن أجل استمرارها، في الضغط علينا لتمرير سياسات في المنطقة أو لانتزاع تنازلات أو لخلق المزيد من المشاكل الداخلية لاستنزاف مصر أو لارغامها علي الانكفاء علي مشاكلها الداخلية. ولاشك أن إعادة النظر في مجمل هذه السياسات قد أصبحت أمرا ضروريا.. ليس طلبا لعداء أحد، ولكن لتصحيح أوضاع مختلة، وللخروج من حالة الضعف التي تغري الآخرين بالتدخل في شئوننا.. ان مصر التي تولد الآن من جديد كدولة ديموقراطية يسودها العدل ويحكمها القانون هي القادرة علي استعادة مكانتها وبناء اقتصادها القوي وإنهاء شبكة الفساد والمصالح المشبوهة. وهي القادرة علي اصلاح الخلل في موازين القوي فلا يجرؤ طرف اقليمي أو دولي علي التدخل في شئونها الداخلية بهذه الوقاحة التي نشهدها الآن. وهنا ينبغي التذكير بما حدث قبل سنوات قليلة، حين قاد الرئيس الأمريكي السابق بوش الابن حملته لتغيير المنطقة بعد جريمته البشعة بغزو وتدمير العراق، وعندما أعلنت الإدارة الأمريكية عن مخططها لإعادة رسم خريطة المنطقة وفقا للمصالح الأمريكية (والاسرائيلية بالطبع!) وعندما حاولت اخفاء ذلك تحت دعاوي زائفة بنشر الديموقراطية. يومها توحدت كلمة مصر في رفض التدخل الأمريكي، ولكنها في نفس الوقت طالبت بالاصلاح الشامل وتمسكت بحق الشعب في ديموقراطية كاملة تستطيع مصر أن تبنيها وأن تجعلها نموذجا في اطلاق الحريات وضمان تداول السلطة، وفي عدالة اجتماعية افتقدها الناس، وفي حكم للقانون يقضي علي الفساد ويوقف نهب المال العام. ولكن ما حدث بعد ذلك كان مخيبا للآمال.. فقد تم ايقاف الهجمة الأمريكية المشبوهة لأن الشعب رفضها، وبدلا من تطبيق برنامج الاصلاح الشامل الذي توافقت كل فئات الشعب علي ضرورته، واعترف النظام بأنه الطريق الوحيد لانقاذ مصر. اذا بالقوي المعادية للتغيير تقوم بالالتفاف علي إرادة الشعب، وتوقف مسيرة الاصلاح وتقطع الطريق نحو الديموقراطية الحقيقية، وتستخدم كل أسلحتها من مال وعنف وبلطجة لتزوير الانتخابات، وتستخدم كل نفوذها لاقرار سياسات زادت من الظلم الاجتماعي، وأتاحت الفرصة لحزب الفساد أن يقوي ويتوحش.. لينتهي الأمر إلي أزمة شاملة كانت ثورة 52 يناير هي الرد الطبيعي والحتمي عليها. والآن، وحتي لا يخطيء أحد في الحساب، فإن ما حدث قبل ذلك لا ينبغي ولا يمكن أن يتكرر. ومصر التي تؤكد كلها مرة أخري علي رفضها لكل محاولات التدخل الأجنبي، تؤكد أيضا ان قطار التغيير والاصلاح الذي انطلق في 52 يناير لن يتوقف قبل أن تتحقق كل المطالب التي توافق الجميع علي مشروعيتها، وقبل أن تولد مصر التي في خاطرنا جميعا.. وطنا للعدل والديموقراطية، الكلمة فيه لأبنائه، والإرادة التي تحكمه هي فقط ارادة شعب مصر العظيم.