فى عام 1956 كان بناء السد العالى مشروعاً قومياً، علق عليه الشعب آمالاً كبيرة بتحقيق الرخاء والازدهار، وكان أن طلبت مصر من البنك الدولى تمويل المشروع، وبعد دراسات ومفاوضات أعلن جون فوستر دالاس، وزير الخارجية الأمريكى فى ذلك الوقت، سحب أمريكا عرضها فى المساهمة فى تمويل السد، ولم يكن ذلك مفاجأة بعد أن رفضت مصر وقتها الإملاءات الأمريكية وشروطها لتمويل المشروع، والتى اعتبرتها مصر ماسة للسيادة الوطنية، كأن تتعهد مصر بعدم إبرام أى اتفاقات مالية، أو الحصول على أى قروض دون موافقة البنك الدولى وأحقية البنك الدولى فى مراجعة ميزانية مصر، وأن تتعهد مصر بتركيز تنميتها على مشروع السد العالى وتخصيص ثلث الدخل القومى لمدة عشر سنوات لهذا الغرض واستبعاد الكتلة الشرقية كلية من المشروع، ورفضت مصر هذه الشروط لأنها تؤدى إلى سيطرة الغرب على اقتصاد مصر، وتنتهى إلى الإطاحة باستقلالها، كما حدث أيام الخديو إسماعيل نتيجة لحفر وبناء قناة السويس، وهذا يعنى أن التاريخ يعيد نفسه مرة أخرى، وهو وضع ترفضه الثورة. نقول لم يكن رفض أمريكا للتمويل مفاجأة بعد الرفض المصرى لهذه الشروط، وإنما كان الأسلوب المهين لهذا الرفض هو الذى مس الكرامة الوطنية المصرية، واعتُبر صفعة لوجه مصر، رفضها عبدالناصر. فقد تعمد «دالاس»، وزير خارجية أمريكا، أن يستدعى السفير المصرى فى واشنطن «أحمد حسين» إلى مكتبه وأبلغه بأن حكومة الولاياتالمتحدةالأمريكية قد وصلت إلى قرار بأن اقتصاد مصر لا يستطيع أن يتحمل أعمال بناء السد العالى، ومن ثم قررت الحكومة الأمريكية سحب عرضها تقديم المعونة المالية، وسلمه كتاباً تعلن فيه الحكومة الأمريكية سحب عرضها وقدره 56 مليون دولار للمشاركة فى تمويل قروض مشروع بناء السد، وفى الوقت نفسه كان «دالاس» قد وزع نص الخطاب على الصحافة قبل أن يصل إلى السفير المصرى أو للحكومة المصرية. ولم يختلف الوضع فى لندن فى اليوم التالى، ومن ثم أعلن البنك الدولى رفضه تمويل المشروع. وكان على القيادة المصرية فى ذلك الوقت أن ترد الصفعة بأقسى منها، رداً للكرامة الوطنية وإعلاءً لقيمة هيبة الدولة واستقلال القرار المصرى، فكان القرار التاريخى «تأميم قناة السويس» وكان رداً سياسياً ولم يكن اقتصادياً. واليوم.. تهدد حكومة الولاياتالمتحدةالأمريكية بقطع المعونة عن مصر إذا ما تمت محاكمة مواطنيها بعد التحقيقات التى أجراها قضاة مصريون محايدون، توصلت إلى ضبط أموال سائلة تقدر بالملايين وخرائط فى المعهد الجمهورى، تتضمن تقسيماً لمصر إلى أربع مناطق، هى منطقة القناة ومنطقة القاهرة الكبرى ومنطقة الدلتا ومنطقة الصعيد، وتضمنت الأدلة موقعاً إلكترونياً يرصد عدد الكنائس ومواقع للقوات المسلحة، وإجراء استطلاعات تتضمن أسئلة تنقل إجاباتها صورة دقيقة لما يدور فى مصر وبتفصيلات مذهلة. واللافت للنظر أن ملايين الدولارات قد تم تحويلها بأسماء لا علاقة لها بالجمعيات والمنظمات التى تباشر أنشطتها تحت ستار اجتماعى، والغريب أن ترسل السفيرة الأمريكية خطاباً إلى قضاة التحقيق مباشرة لطلب رفع أى قيود على سفر مواطنيها، وهو الأمر الذى رفضه بحق قاضى التحقيق، وأحال الخطاب إلى وزارة الخارجية، دون رد منه على السفيرة ثم يقول المتحدث باسم البيت الأبيض إن الإجراءات التى تم اتخاذها تجاه الأمريكيين العاملين فى هذه المنظمات ستؤثر على العلاقات المصرية الأمريكية، والمساعدات التى تقدمها الإدارة للقاهرة. وحذرت كاى جرانجر، رئيسة لجنة المخصصات الخارجية: «من غير المقبول مضايقة أمريكيين يحاولون مساعدة مصر على إرساء الديمقراطية»، وأضافت: «ما لم تؤكد الخارجية للشعب الأمريكى أن هذه المسألة تم حلها، ليس من المفترض أن تحصل الحكومة المصرية على دولار واحد». وبعد.. ألا يعد كل ما سبق إهانة للكرامة الوطنية وتدخلاً فى شؤون السيادة المصرية وأعمال القضاء المصرى؟! ألا تشكل هذه المعونة ضغطاً على القرار المصرى؟! لقد ثار الشعب المصرى من أجل كرامته وحريته ضد الطغاة فى الداخل وهذا الشعب قادر – من باب أولى – على الاستغناء عن المعونة الأمريكية فى سبيل كرامته وحريته واستقلال قراره، نحتاج لقرار تاريخى بأن الشعب المصرى هو الذى يرفض المعونة الأمريكية. الشعب المصرى يحتاج إلى قائد وزعيم بوزن «ناصر 56».