واجب الرعية ان تكون دائما يقظة لكل ما يجري حولها حريصة علي قطع دابر الفساد ايا كان مصدره الإسلام جعل الأمة الإسلامية أسرة واحدة وكل فرد فيها حارسا علي أمنها وسلامتها وحياتها، ولم يحصر الإصلاح في جماعة بعينها أو هيئة بذاتها بل جعل التقويم من حق كل فرد في المجتمع فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم »انصر أخاك ظالما أو مظلوما. قالوا: يا رسول الله ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال: تمنعونه من الظلم وتأخذون علي يديه«. ولأن الأمة وحدة متضامنة يشترك جميع أفرادها في المسئولية عن إصلاح المجتمع، ومقاومة الفساد والانحراف ولذلك امروا جميعا ان يأخذوا علي يد الظالم ويقفوا لمنع ظلمه و الحد من طغيانه حتي لا يصيبهم العذاب تطبيقا لقوله »واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة« وفي هذا تهديد لمن يري الظلم والفساد ويسكت عليه، لأن كل من يستطيع الأخذ علي يد الظالم ثم لا يفعل فهو عند الله شريك في الظلم وآثم ومسئول أمام الله عن عدم المقاومة عملا بقول الله سبحانه. »ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوت ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز«. وقد حث رسول الله صلي الله عليه وسلم علي ان يكون المؤمن قويا يدفع ويمنع لا ضعيفا يضطهد فقال صلي الله عليه وسلم »المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير«،. ومن أساليب مقاومة الطغاة والظالمين وعقابهم تأليب وتوجيه الرأي العام إلي مقاطعتهم، لأن غضبة الجماعة سوط من سياط الله يعذب به من يشاء ويقِّوم به من يشاء وقد فعل رسول الله صلي الله عليه وسلم هذا مع الذين تخلفوا عن غزوة تبوك دون عذر أو سبب فقد تخلف ثلاثة من الصحابة فجعل النبي من وسائل تقويمهم مقاطعة الرأي العام لهم خمسين يوما، حتي ضاقت عليهم الارض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم، واستيقظت ضمائرهم فقبل الله توبتهم، وقد تبين انه لا نجاة للمرء من الخسران إلا بالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، لأن الأمة إذا كان علماؤها مداهنين وساستها منافقين وقادتها خائنين وعامتها لاهين، فإنه لا محال أن يستولي عليها الباطل ويطمع فيها الظالم ويستبد بها الطاغية، ويستذلها المفسد وينزل بها العذاب. وقد تحدث القرآن الكريم في أول سورة نزلت علي رسول الله صلي الله عليه وسلم حيث قال تعالي فيها »كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَي (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَي (7)« وفي هذا بيان لسر الطغيان وهو الغني ووفرة المال والثروة ولعلاج ذلك الداء قال تعالي »إِنَّ إِلَي رَبِّكَ الرُّجْعَي (8)« ليذكر المولي سبحانه وتعالي ذلك الانسان الطاغية بالموت والفناء والرجوع إلي الله لمحاسبته علي ما ارتكبه يوم لا ينفع مال ولا بنون. وقد ذكر القرآن الكريم قصص الطغاة والمفسدين ومنهم أصحاب الجنة وقارون الذي كان من قوم موسي فبغي عليهم »وفرعون وأصحابه ذوو الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد كما ضرب القرآن الامثال في محاربة الفساد والطغيان والمن علي الضعفاء والمضطهدين لأن نظام الإسلام الاجتماعي إنما يهدف إلي العدالة والمساواة ورفع الظلم عن المظلومين كما حذر من الارتباط والصلة بالظالمين، ومصاحبتهم وتعظيمهم تصديقا لقول الله سبحانه وتعالي. »ولاتركنوا إلي الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون« وبهذا رسم الإسلام الطريق السوي للأمة لتفرق بين الحق و الباطل. واجب الراعي فواجب الراعي الذي ولاه الله حكم الناس وتحمل أمانة المسئولية هو أن يعمل علي توفير الجو الصالح الذي تنتشر فيه الحرية ويظلله الأمن والامان وتتحقق فيه العدالة. ويمنع ويزيل كل أجهزة الضغط والارهاب والخوف حتي يأمن الناس علي أنفسهم وعلي حياتهم إذا هم ابدوا رأيهم ويتخذ من حوله بطانة صالحة مخلصة تحافظ عليه كما تحافظ علي مصالح المواطنين وتعينه علي فعل الخير وقضاء مصالح المواطنين وتلبية حاجاتهم المشروعة والضرورية، وتفتح أمامه النوافذ ليري الأمور علي حقيقتها ويعالجها العلاج المناسب لها. ونذكر في هذا توجيها كريما للرسول صلي الله عليه وسلم حيث يقول: »إذا أراد الله بالأمير خيرا جعل له وزير صدق إن نسي ذكره، وإن ذكر اعانه، وإذا أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكره، وان ذكر لم يعنه«. والوزير المقصود به كل مساعد وكل مستشار موثوق به عند صاحب السلطة علي كل المستويات لان هؤلاء إذا كانوا مخلصين للحاكم وللوطن كانوا خيرا ونعمة للحاكم وللوطن، وان كانوا غير ذلك، كانوا شر بطانة تجر علي الحاكم الذي وثق بهم، وعلي الوطن المتاعب والنكبات، ويصبح من الواجب عليه أن يتخلص منهم، ويبعدهم عن مواقعهم، حتي لا يستمروا في الاساءة اليه وإلي المواطنين، وهو حين يفعل ذلك يوفر المناخ الصالح لامته لتشاركه بقلبها ورأيها وعملها في النهوض بشأنها وتحقيق مصالحها وما تحتاجه مما يرفع مكانها ويعلي منزلته عندها. وقد جلس احد الخلفاء العباسون إلي عالم صالح وطلب منه ان يقدم له نصيحة تنفعه في حياته فقال العالم: يا أمير المؤمنين لأن تصحب من يخوفك حتي تبلغ الأمن خير لك من أن تصحب من يؤمنك حتي تبلغ الخوف«. والعالم يريد بذلك توجيه الأمير إلي اختيار بطانته ومستشاريه من الرجال المخلصين له ولأمتهم الذين يجهرون بالحق.. والذين عندهم الجرأة في توجيه الأمير إلي الصواب وإبعاده عن الخطأ البعيدين عن النفاق والملق والرغبة في مجاراته في آرائه ومسايرته في شهواته ونزواته وتحسين كل رأي يصدر عنه حتي لو كان خطأ مدمرا. المستشارين المخلصين فهذا النوع من المستشارين المخلصين يحفظون الأمير من الاخطاء ويصونون الأمة من عبث الأمراء والحكام. ولما كانت النفوس عادة تطرب للثناء، وتفرح وتسعد للإطراء وتضيق بمن يحد من سلطانها، أو يقف في سبيل رغباتها، ولا سيما أصحاب النفوذ والجاه والسلطان، لم يجد العالم المخلص خيرا من أن ينصح أمير المؤمنين بالحرص علي بطانة صالحة من هذا النوع المخلص الممتاز حتي ولو وجد منهم احيانا ما يضيق به. في نهاية الأمر سيحمونه ويحمون الأمة من اخطائه، ويصلون به إلي بر الأمان، لو استمع إليهم وأخذ بنصيحتهم فتلتف رعيته حوله ويحبونه، ويسجل له التاريخ ذكري طيبة. وحين يلقي الله يلقاه بصالح الاعمال، فيجد عنده النعيم المقيم والأمان والطمأنينة وكل ذلك بفضل البطانة الصالحة الجريئة المخلصة. والأمر علي العكس من ذلك لو اتخذ الأمير بطانة سوء من المنافقين المتملقين الذين يستولون علي قلب الأمير، بمجاراته في آرائه وتحسين رغباته وتزيين شهواته فيجعلون لديه الخطأ صوابا، والصواب خطأ، ويصورون له المنافقين بأنهم خير المخلصين، ويبعدون عنه الاكفاء المخلصين ويسدون عليه كل منافذ النور ويحولون بينه وبين معرفة الحقائق عن رعيته، فيوردونه موارد التهلكة ويكونون سببا في سخط رعيته عليه، فتسوء ذكراه كما تسوء عاقبته عند الله عز وجل حين يلقاه. نصيحة العالم ومن أجل هذا كانت نصيحة العالم للأمير: بأن يبعد عنه هذا النوع من البطانة والمستشارين لصالحه أولا ولصالح الأمة ثانيا. وقد وضع الإسلام ميزان اختيار الأعوان والمستشارين لكل انسان ولي أمرا من امور المسلمين في أي عمل من الاعمال، كما ورد في حديث رسول الله صلي الله عليه والسلم الذي ذكرناه آنفا. أما واجب الرعية فهو ان تكون دائما يقظة لكل ما يجري حولها، حريصة علي قطع دابر الفساد ايا كان مصدره. وكل فرد من الأمة في موقع عمله أو حيث يكون يجب ان يعلم انه مسئول ليس عن نفسه فحسب، ولكن عن إصلاح ما يراه من عيوب، ومقاومة كل ما يشعر به من ظلم يقع عليه أو علي غيره بالصورة المناسبة فكلنا مسئول، الزارع في حقلة والصانع في مصنعه والموظف في ديوان عمله فلا يتهرب أحد من مسئولية تقويم المعوج، وإزالة الضرر حسب قدرته بالكلمة يقولها أو العمل يقوم به أو بمقاطعة الفساد وإظهار الاحتقار له. الظلم والفساد لأننا بذلك نبعد الخطر عن انفسنا فنحن إذا تركنا الظلم والفساد يستشري فسينالنا ضرره بطريق مباشر أو غير مباشر. وهذه هي المسئولية الجماعية، وهي المعني العميق والدقيق لقوله تعالي: »وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ« 52 الأنفال- بل يعم ضررها هذا الظالم وغيره لان هذا الغير قد سكت فشجع الظالم بسكوته علي ان يتمادي في ظلمه كما شجع غيره علي مباشرة الظلم والفساد.. فيصبح الظلم والفساد موجة تجرف الجميع في طريقها ويعاقبون عليها في الدنيا والآخرة وفي هذا يقول الرسول صلي الله عليه وسلم: »إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا علي يديه أوشك الله أن يعمهم بعذاب منه«. وهنا تجئ مهمة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر هذه المهمة التي جعلها المولي سبحانه من أولي خصائص هذه الأمة التي يجب ان تحرص عليها حين قال عز من قائل » كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ...« »آل عمران 011« . ولقد وجه الرسول صلي الله عليه وسلم تحذيرات كثيرة وشديدة من إهمال هذا الواجب نذكر منها قوله عليه الصلاة والسلام »والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله ان يبعث عليكم عقابا من عنده وليسلطن الله عليكم شراركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم« وهذه نتيجة طبيعية لكل مجتمع يقف سلبيا من الفساد، ويتركه يستشري كالسرطان فلا يقتصر ضرره علي عنصر واحد في الجسد بل يعمه كله. وبهذا يضع الله ورسوله كل فرد في الامة أمام واجب مقاومة الظلم والفساد لا يعفيه من مسئوليته، حين يتهاون في مقاومته والتصدي لشروره وآثامه. الانكار بالقلب والرسول صلي الله عليه وسلم لم يترك وسيلة لمعتذر يحاول ان يتنصل من واجبه حين بين وسائل مقاومة الظلم ومكافحة الفساد بالكلمة يقولها أو باليد للقادر عليها أو بالمقاطعة والمقاومة السلبية، وهي الانكار بالقلب، وهي آخر وسيلة يلجأ إليها المخلصون، لكنها ايضا لها قوتها ومفعولها في كسر شوكة الطاغين. وبهذا يرسم الإسلام الوسيلة للحياة السليمة النافعة و المثمرة مسئولون يتيحون الحرية للافراد، ويشجعونهم علي كشف العيوب ومقاومة الفساد وأمة تقوم بواجبها في تأديب المفسدين الظالمين وإلا تعرض البنيان كله للانهيار وقد عشتم ولمستم نهاية الفساد والمفسدين، فهل نعتبر ونتعظ مما حدث؟!! ونقف جميعا صفا واحدا في استمرار التصدي للفساد والانحراف ومقاومة الظلم والطغيان، وتظل ثورة 52 يناير معلما علي الطريق تأخذ بأيدينا جميعا إلي الطهر والنقاء والتزام الحق والاعتصام بتقوي الله في كل ما نقوم به حتي نحقق للأجيال القادمة ما يأملون، ونقدم نموذجا شريفا يهتدون به ويسيرون عليه. واختم بما ورد من أن احد خلفاء الدولة الأموية كان طاغية جبارا قد ذهب لأداء فريضة الحج، وبينما هو جالس في الحرم المكي وحوله حاشيته وقعت عيناه علي احد علماء الدين الافذاذ في عصره يجلس في الحرم قريبا منه، فأرسل إليه أحد رجاله ليأتيه به، فذهب إليه وقال له: أمير المؤمنين يطلبك، فرد عليه العالم بقوله: قل لأمير المؤمنين في بيت الله لا استجيب إلا لله، فذهب الرجل وابلغ الخليفة: فأرسله إليه مرة ثانية وثالثة وهو مصر علي رأيه، فانتقل أمير المؤمنين إليه وجلس بجواره وبعد أن بدأه السلام وحياه التحية الواجبة قال له: لم لا تأتينا كما يأتينا الناس، فرد العالم قائلا: ليس عندك ما أرجو له، وليس عندي ما أخافك عليه، فسكت الأمير برهة، ثم قال له: ما رأيك في فقال له: اعفني يا أمير المؤمنين، فالح عليه، فقال له: أن أمنَّتني أعلمتك بالأمور من أصولها، فقال له الأمير: أنت آمن فقال العالم: يا أمير المؤمنين أنت رجل ولاك الله حكم الناس فأقمت دونهم حرسا وحجابا حجبوهم عنك وحجبوك عنهم، فلا يصلك من أخبار الناس إلا ما يريدون ثم قالوا: انه لا يخاف الله فما بالنا نخافه، فعاثوا في الناس فسادا فأكلوا أموال الناس باسمك، وسبحنوا أولادهم باسمك وعذبوهم باسمك، واستحلوا محارمهم باسمك فانتشر الفساد والبغي في الأرض، فستحمل أوزارك وأوزارهم يوم القيامة، ثم يحاسبك مولاك علي تفريطك في الأمانة التي وكلها الله إليك فالولاية أمانة، وأنت قد ضيعتها باختيارك الأعوان الظلمة الطغاة فبكي أميرالمؤمنين فقال له العالم: كفكف دموعك يا أمير المؤمنين، واتق الله فيما ولاك، واعلم ان رسول الله صلي الله عليه وسلم قال »إن الله سائل كل راع عما استرعاه أحفظ أم ضيَّع« واعلم يا أمير المؤمنين ان في جهنم حيات كالتلال، وعقارب كالقلال تلدغ كل أمير لا يعدل في رعيته. فقال له أمير المؤمنين سلني حاجتك. فقال العالم: في بيت الله لا أسأل إلا الله. فظل معه أمير المؤمنين حتي خرجا من الحرم معا، ثم قال له الأمير: خرجنا من بيت الله فسلني حاجتك، فرد عليه قائلا: إذا كنت لم اسألها ممن يملكها فكيف اسألها ممن لا يملكها، اصلح الله حالك يا أمير المؤمنين اذهب واصلح من شانك مع من ولاك هذه الولاية. لعل هذه الواقعة عبرة لمن يتولون أمر الناس ويتكالبون علي الولاية في كل المواقع والمواطن فيعلمون ويتيقنون انها أمانة فيؤدون حق الله وحق عباده فيها لأنها تأتي يوم القيامة حسرة وندامة لمن لم يتق الله فيها.