عزت القمحاوى كل حوادث الصدام الطائفي مقيتة، سواء تمت باحتقان ذاتي بين مسلم وقبطي أو بحقن بالعداوة من خلال الطرف الثالث المعروف، لكن الأسوأ من الأزمة التي تقع هنا أو هناك المعالجة التي تمت في واقعة العامرية بالإسكندرية التي انتهت بإبرام اتفاق عرفي حضره المحافظ ووقع راضيًا عليه مطمئن البال إلي الحكم بنقل 8 أسر من مساكنها إلي مكان آخر منعًا للاحتقان! والأخطر من هذا الخطير هو موقف مجلس الشعب الذي يمكن توفير نفقات تشغيله بصورته الحالية والاستعاضة عن مناقشاته بمناقشات مكتب الإرشاد، وإن كانت القلة الواعية في المجلس التي شكلت وفدًا أنهي المشكلة قد عوضت خيبة الأمل. كل القوي التي لم تزل تعي معني هذا البلد وقيمته رفضت إجراء الصلح العرفي؛ ذلك لأنه ينطوي علي كارثة مركبة من ثلاث شُعب، حيث يمثل عدوانًا علي مبدأ المواطنة، وعدوانًا علي كيان الدولة وعدوانًا علي مبدأ العدالة المجردة. ولا أعرف كيف يبارك مسئول في منصب رفيع بالدولة اتفاقًا كهذا، بينما هو يجلس في مكانه تحديدًا لكي يقرر بوصفه ممثلاً لسلطة الدولة، لماذا يذهب إلي مكتبه إذن في اليوم التالي، وماذا سيفعل إن كان هناك غيره من يتخذ القرار؟! من حيث المبدأ لا يمكن لعاقل أن يعتمد حل التهجير للفصل بين عائلتين متنازعتين. من الوجهة العملية البحتة يجب أن نتوقع اصطدام العائلة المنقولة بعائلة أخري في مكانها الجديد، وبالمثل قد تصطدم العائلة المستقرة مع جيرانها الجدد. هذا إذا جردنا الصراع من بعده الديني وقلنا إنه نزاع بين عائلتين، ولكن الشأن الديني هو أساس هذا الخلاف ومعني الاستسلام لحل التهجير أن تتحول مصر إلي جيتوهات وحارات للنصاري والمسلمين، لكن يظل خطر الاحتقان قائمًا في المترو والجامعة والمقهي والطريق الصحراوي! وإذا ما تركنا الاستحالة العملية، فإن مثل هذا الحل يمثل عدوانًا علي مبدأ المواطنة الذي يمنع التفرقة بين المصريين بسبب دين أو عرق أو لون. وبغض النظر عن الظلم الذي يقع علي من يترك بيته عنوة؛ فإن هذا الحل (التهجير والاستيطان) لم يرتبط إلا بسلطات الاحتلال في كل مكان وزمان، وأحطها سلطات الاحتلال الإسرائيلي. وأما الاعتداء علي كيان الدولة ففي تقدم بعض الأشخاص للقيام بدورها في ظل مباركة ممثل الدولة، وأين؟ في الإسكندرية بالذات المدينة التي علمت الدنيا العلم والحكمة والتسامح. وأما الاعتداء علي روح العدالة؛ فإن هذا الاتفاق لا يختلف عن غيره من الجلسات العرفية بمختلف أشكالها ودرجات المشكلات التي تواجهها. سواء انعقد المجلس العرفي للفصل في قضية ثأر أو في ميراث قيراطين من الأرض أو في مشاجرة بين الأطفال في الشارع فإنه يحكم بالممكن لا بالعدل. والذين يعلون من شأن هذه الجلسات العرفية لا يعرفون جوهر عملها، ولديهم حنين رومانسي إلي زمن "الأصول" و"الأخلاق" بينما لم يكن هذا الزمن موجودًا في يوم من الأيام. ولم يحدث أن حكم مجلس عرفي حكمًا يمكن أن ينسجم مع روح القانون المدني، لأن قانونه الحاكم هو تبويس الرءوس واللحي إن وجدت وإنهاء المشكلة بالميل ضد الأضعف أو ضد الأكثر حياء وكرمًا لإغلاق فم الطرف الأكثر تطاولاً. ولذلك تفشل مجالس التحكيم العرفية بين المتساوين في القوة وفي التمسك بالحقوق. وفي الوقت نفسه فإن إنجاز العديد من الاتفاقات في مثل هذه المجالس لا يعني أبدًا أن العدالة بخير. وأما عن ملف الاحتقان الطائفي الكريه فظهوره في أي وقت فأل شؤم مثله مثل صرخة الغراب؛ فلم يحدث أن استهدف المواطنون أمن بعضهم البعض إلا في حالات اليأس الكامل والشك في هيبة الدولة وفي عدالتها أيضًا. وعندما تسوء الأحوال أكثر وينحدر الحكم إلي درجة عدم المبالاة بشيء إلا أمنه الخاص تدخل الحكومة طرفًا في التحريض لا الفصل بين المتنازعين، ولو كانت محاكمة العادلي أكثر جدية من هذا لقرأنا تفاصيل هذا الملف المخيف. وللأسف ليست العامرية البؤرة النشطة الوحيدة الآن في هذا الملف الكريه الذي انفتح علي الخلفيات السابقة المعروفة، مما يعني أننا لم نتقدم خطوة، إلا علي صعيد التمويه في المسميات؛ فالذين كانت لهم أسماء واضحة من قبل أصبح لهم اسم واحد معمم الآن: "الطرف الثالث". وهو اسم رائع، ينبغي أن يحصل من اخترعه علي جائزة في اللغة لا في الحكم؛ إذ يمكن أن يكون هذا الطرف داخليًاً قطاعا عاما أو قطاعا خاصا، ويمكن أن يكون إقليميًا صهيونيًا أو نفطيًا، ويمكن أن يكون أمريكا التي ترعي الشرور كلها. وليس من الحكمة أن نرجو مجهولاً أو نبتهل لكل هذه القوي التي لها آلاف الآسماء وليس لها ملامح محددة لكي تكف أذاها عن مصر، لكننا نخاطب المعلومين علي كراسي الحكم، ألا يتركوا إطفاء النيران هنا أو هناك لجلسات عرفية؛ لأن الإدارة التي تتنازل عن سلطة الفصل بين المختلفين تفقد واحدًا من أهم مبررات وجودها، والله الموفق!