بعيدا عن استدعاء شعارات «ثورة 19» المهيبة «يحيا الهلال مع الصليب» والتي لم تعد تجدي نفعا لاحتواء الاحتقان الطائفي والذي ما أن تخبو ناره في مدينة حتي تعود لتندلع مجددا في قرية. فمن أحداث الخانكة مرورا بالكشح انتهاء بالقديسين لم تفلح جهود الدولة في إدارة الملف الطائفي أمنيا والادعاء المستمر بأن هناك قوي خفية تعبث بأمن الوطن واستقراره وتغضي الطرف عن الأسباب الحقيقية وراء تصاعد موجات الكراهية والعنف حتي وصلنا إلي مرحلة خطيرة لا يجدي معها الإنكار أو التغافل. والتحقيق التالي يكشف عن أهم أسباب العنف الطائفي وكيفية حلها وأيضا مستقبل مصر في حال ظلت هذه الملفات الشائكة عالقة دون علاج. في البداية يري المفكر الإسلامي جمال البنا أن تفاقم أحداث العنف الطائفي ترجع إلي الكبت والتضييق مما يدفع بالفرد للخروج علي الشرعية والثورة علي الفقر والفساد متخذة رداء دينيا.. ويضيف قائلا إن إشاعة الحرية وتحقيق العدالة هي الحل الجذري للاحتقان الطائفي. مناخ طائفي بينما يري الدكتور منير مجاهد منسق حركة «مصريون ضد التمييز الديني» أن مصر لم تعد دولة مدنية منذ عهد السادات بعد سماحه لجماعات الإسلام السياسي والسلفيين بالاستيلاء علي التعليم وإحكام قبضتهم علي المساجد والقنوات الفضائية والتي تحفي علي الكراهية لغير المسلمين سواء كانوا أقباطا أو غيرهم. ويؤكد مجاهد أننا في حاجة ماسة لخطوات حقيقية نحو دولة مدنية للخروج من هذه الأزمة علي رأسها إجراء تعديلات دستورية تنص صراحة في مادتها الأولي علي أن مصر دولة علمانية ديمقراطية فضلا عن إلغاء المادة الثانية من الدستور والتي تنص علي أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. ويضيف قائلا: يجب إلغاء التحفظ الوارد في المادة 11 المتعلق بالمرأة «دون الإخلال بقواعد الشريعة الإسلامية» لأنه يتعارض مع مبدأ مساواة المرأة بالرجل بالإضافة إلي إلغاء المادة 19 والتي تجعل من التربية الدينية مادة أساسية في مناهج التعليم العام. ويتفق الدكتور عاصم الدسوقي أستاذ التاريخ المعاصر مع طرح مجاهد حيث يري أن مصر تعيش مناخا طائفيا منذ السبعينات وإعلان السادات نفسه رئيسا مسلما لدولة مسلمة ورفع شعار «العلم والإيمان».. كما يشير الدسوقي إلي أن عدم إصدار الدولة لقانون صارم وتفعيل المواطنة تم استثماره من قبل القوي الخارجية بالتعاون مع النظام العالمي الجديد لتفكيك الكيانات الوطنية والقومية استنادا للاختلافات العرقية والمذهبية.. ويؤكد علي ضرورة إقرار عقوبة خيانة الوحدة الوطنية باعتبارها جريمة عظمي تعرض من يثبت تورطه فيها بالأدلة إلي عقوبة مغلظة دون محاكمة خشية استغلال الدفاع للثغرات القانونية لتبرئة الجاني. وعن قراءته للمستقبل يقول الدسوقي لم تشهد مصر خلال تاريخها الحديث مثل هذا الاحتقان الطائفي الشديد لذلك فإنه إذا استمرت الأوضاع الحالية دون حلول جذرية سنجبر علي المضي قدما نحو التفكيك والانقسام مثل السودان والذي أدي إقرار رئيسها السابق جعفر النميري بتطبيق الشريعة الإسلامية مصدرا للتشريع في سبتمبر 1983 ومن بعده الترابي وتلميذه عمر البشير مما دفع جنوب السودان نحو الانفصال. شرخ اجتماعي ويشير الدكتور محمد نور فرحات الفقية الدستوري وأستاذ فلسفة القانون بجامعة الزقازيق إلي أن المسئولين الرسميين يفضلون استخدام تعبير الأحداث الإرهابية بدلا من الاحتقان الطائفي حتي يعفوا أنفسهم من مسئولية مواجهة الشرخ الاجتماعي الخطير الناجم عن سياسات اجتماعية واقتصادية وثقافية استغرقت عشرات السنين ويرجع فرحات هذا الشرخ إلي فشل الدولة في إدارة الملف الطائفي فهي تسير علي سياسة المواءمات ودفن الرءوس في الرمال وعدم التحرك إلا عند نشوب الحريق، ويضيف: للأسف الدولة تعتمد علي الأمن في إدارة أهم ملفاتها الاجتماعية والتي لا يمكن معالجتها أمنيا. وعن رؤيته للمستقبل يقول فرحات: إن لم تكن هناك صحوة وخطة عمل عاجلة لمواجهة هذا الاحتقان تشارك فيها جميع القوي الاجتماعية فإن المستقبل لا يبشر بالخير. وعلق فرحات علي دعوات أقباط المهجر لإقامة حكم ذاتي قائلا: هذه جماعات مأجورة تعمل لصالح إسرائيل ولن تنجح في مسعاها لأن مصر دولة موحدة مركزية لم تعرف التقسيم طوال تاريخها بسبب دين أو طائفة. فكر التكفير ويؤكد بهي الدين حسن مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان أن التمييز الذي تنتهجه الدولة المصرية ليس موجها فقط للأقباط ولكنه يمتد ليطال الشيعة والبهائيين وبدو سيناء وأهالي النوبة. كما يشير إلي دور المؤسسة الدينية الرسمية متمثلة في الأزهر ووزارة الأوقاف في تعميق الكراهية ضد غير المسلمين بل واستخدام العنف ضدهم مثل إصدار الأوقاف كتاب «فكر التكفير» للدكتور محمد عمارة بثمن زهيد وحرض الكتاب علي استباحة دم وممتلكات غير المسلم. ويضيف: لم يتم الاعتذار عن هذه الإساءات ولم يجر تحقيق علني يكشف عن المتطورين في هذه الجريمة فما جاء به الكتاب يكفي كوثيقة لتبرئة المتهمين في مذبحة الإسكندرية ونجع حمادي. وانتقد بهي تعليق أحداث العنف الأخيرة علي مشجب القوي الخارجية سواء أمريكا أو إسرائيل لأن الأوضاع الداخلية هي المحرك الحقيقي لهذا العنف فإذا استمرت هذه السياسات ستحدث كارثة أشد وطأة من نكسة 1967 كما استبعد إمكانية تكرار السيناريو السوداني في مصر نظرا لعدم وجود كثافة سكانية مسيحية في مناطق جغرافية متصلة إلا أنه استدرك قائلا: لكن إذا حدث تطهير ديني فهذا سيؤدي لنزوح وتمركز سكاني للأقباط. ويردف قائلا: علينا الاعتراف بأن انفصال جنوب السودان لم يكن أحد أهداف الحركة الشعبية لجنوب السودان ولكن محاولة البشير تطبيق الشريعة قسرا دفع الجنوبيين للمطالبة بدولة مستقلة. ويختلف الكاتب لويس جريس مع طرح بهي الدين حيث يرجع الأحداث الأخيرة لمحاولات القوي الخارجية لاختراق المجتمع المصري وتفتيته حيث استشهد باتفاق أبرمته وكالة الاستخبارات الأمريكية والمافيا عام 1959 حيث تتولي الأخيرة القيام بالتوترات والاحتقان في مقابل إطلاق يدها لتجارة المخدرات والدعارة ويضيف قائلا تستخدم المافيا بعض المصريين مستغلة تدهور الأحوال الاقتصادية، ويشدد جريس علي أن مصر بمسلميها ومسيحييها لن تسمح لهذه المؤامرات بتمزيقها لأن المصريين شركاء في الوطن والمصير. غياب العدالة فيما يري القمص صليب متي ساويرس عضو المجلس الملي وراعي كنيسة مارجرجس بشبرا أن التراخي الأمني وراء تصاعد موجات العنف الطائفي فضلا عن غياب العدالة حيث إن مرتكبي أحداث الكشح وأبوقرقاص والدير المحرق لم يوقع عليهم أي جزاء حتي الآن فأصبح دم المسيحي رخيصا. وعن الحلول التي تنزع فتيل الأزمة يقول ساويرس: إنه يجب عدم التمييز بين المسلمين والمسيحيين وإتاحة الفرصة لهم لتقلد المناصب القيادية والمهمة في الدولة. ويتفق المستشار نجيب جبرائيل محامي الكنيسة مع ساويرس حيث يري ضرورة إصدار تشريعات تحقق المواطنة والمساواة وتحظر التمييز في الوظائف علي أساس ديني فضلا عن إصدار قانون لبناء دور العبادة. ويضيف قائلا: يجب أن تكفل الدولة حرية العقيدة لغير المسلمين حيث إن هناك 4 آلاف قضية للعائدين للمسيحية يرفض مجلس الدولة البت فيها باعتبارهم مرتدين عن الإسلام. وعن أسباب الاحتقان الطائفي يشير جبرائيل إلي أن الثقافة المتشددة في مناهج التعليم وتجاهل التاريخ القبطي فضلا عن عدم تدريس اللغة القبطية في أقسام الآداب أسوة باللغة العبرية والفارسية. ويؤكد أن هناك من يستغل المناخ الطائفي لإذكاء روح استعلاء الأغلبية علي الأقلية مثل وصف الدكتور زغلول النجار للكتاب المقدس بأنه «مضلل ومزيف». ويري جبرائيل أن هناك ضرورة لإلغاء مادة الدين ويكتفي بتدريسها في المسجد والكنيسة ويستعاض عنها بمادة القيم والفضيلة والتي تجمع القيم المشتركة بين الديانتين. يري الروائي يوسف القعيد أن نظام الحكم الحالي يحتاج لعقد اجتماعي جديد ينصف المصريين دون تمييز. ويضيف: نحن نواجه حريقا يحتاج لإرادة سياسية لاحتوائه من خلال إدارة للأزمات علي غرار ما حدث في أمريكا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر فالأحداث الأخيرة لا تقل فداحة عنها. وعن الحلول الفورية لإطفاء الحريق يقول القعيد: يجب وقف بناء المساجد والكنائس لمدة عام وأن تقتصر علي الصلاة فقط وتمنع الدروس الدينية والتي تمثل وقودا هائلا للفتنة وكذلك حظر أي تعليم له صبغة دينية. التعليم والمواطنة يطالب الدكتور شبل بدران - أستاذ أصول التربية بجامعة الإسكندرية - الإدارة السياسية بحسم الملف الطائفي بعيدا عن الأمن وتنفيذ توصيات الدكتور العطيفي الذي أعده علي خلفية الأحداث الطائفية في الخانكة 1972 ويري بدران أن قضية التعليم توضع علي رأس الأولويات لمعالجة الاحتقان الطائفي حيث إن هناك ثغرات في مناهج التعليم تعرقل تحقيق المواطنة منها الآيات القرآنية والتربية الدينية. ويلقي بدران الضوء علي تجربة رائدة في المغرب 1992 حيث تم تدريب المعلمين علي حقوق الإنسان لمدة عام ومن ثم إشراكهم في تأليف المناهج التي سيقومون بتدريسها. وتري ليلي الشال عضو الاتحاد النسائي بحزب التجمع أن السبب الحقيقي وراء الاحتقان الطائفي يعود لشعور الأقباط بالاضطهاد والتمييز ضدهم حيث إن نص المواطنة الذي أضيف في التعديلات الدستورية الأخيرة لا يعدو كونه ديكورا لا يطبق علي أرض الواقع فضلا عن تغذية المساجد لمناخ التعصب والكراهية ضد المسيحيين كما تؤكد الشال أن هذه الروح غريبة علي المجتمع المصري ووافدة إليه من الخليج حيث سافر إليه عدد من المصريين فعادوا إلينا محملين بالأفكار الوهابية. وتشير إلي أن الحل يكمن في تحقيق مطالب الأقباط العادلة من بناء كنائس حيث إن عددها الآن لا يتناسب وعدد المسيحيين، وأيضا تعديل قوانين الأحوال الشخصية، وكذلك إلغاء فصل الطلاب في حصة التربية الدينية وتدريس الفضائل السامية في الديانتين.