من تابعوا ما يكتبه أنيس منصور وهم كثيرون يتذكرون جيداً كيف استخدم عبارة »المفتري عليه، والمفتري علينا« متحدثاً عن الزعيم الراحل »جمال عبدالناصر« حيث استخدم قلمه الرشيق في انتقاد عبدالناصر مستدرجاً القاريء في البداية الي انه بنفس المنطق سوف يدافع عنه ضد الذين »افتروا عليه« عندما انطلقت تلك الموجة المغرضة التي استهدفت تشويه مكانة الرجل، وبالرغم من مئات الكتب التي أثري بها أنيس منصور مكتبتنا العربية، إلا أنني اخترت كتابه بذلك العنوان المثير لأنه كان يوضح مواقفه السياسية حيث أثرت فيه واقعة شخصية عندما تعرض للمنع من الكتابة لفترة معينة أثناء عهد عبدالناصر مما أوغر صدره ضده، بينما جمعت »الكيمياء« بينه وبين الرئيس السادات حتي صار كاتبه وجليسه ومؤرخه!. المهم ان من اختلفوا معه مثلي في موقفه من عبدالناصر، لم يملكوا إلا الإعجاب به كاتباً موسوعياً لم يترك مجالاً للكتابة والإبداع الا طرقه بأسلوبه المتميز الذي يصل مباشرة ومن أقصر الطرق الي عقل وقلب القاريء وقد ضاعف من مكانته المتفردة قدرته علي التحدث مع من يسوقهم حظهم الطيب للالتقاء به والجلوس معه لأنه كان حكاء عظيماً يأسرك بحديثه الذي لا يخلو من الأمثلة والمواقف والأشعار وحتي النكات مما تختزنها ذاكرته القوية إلي جانب ما تسعفه به بديهته في الرد علي أي تساؤل حتي لو كان محرجاً مثل سؤالي له عن عدائه البالغ لعبدالناصر فإذا به يقول لي: »يا حمدي دا الرئيس السادات بيحبك ويقدرك«، فقلت له: و»أنا لا أكره السادات، لكنني لا أقبل الافتراء علي عبدالناصر« فقال ضاحكاً: »يا أخي واضح انك انت المفتري«، هذا وكانت علاقتي بكاتبنا الكبير قد بدأت عندما كنت من البارزين من الأدباء الشبان وطلب مني إحدي قصصي القصيرة لينشرها في مجلة »آخر ساعة« التي كان يرأس تحريرها، وعندما لاحظ أنني أفضل مجلة »المجلة« الثقافية قال لي: اسمع يا حمدي.. انت ممنوع من النشر الا في »آخر ساعة« وإلا سيصدر أمر بمنعك من الكتابة نهائياً مثلما حدث معي! ثم توطدت العلاقة معه عندما تم اختياري للسفر إلي موسكو ضمن وفد الأدباء الذي تكون منه ومن الدكتور عبدالقادر القط، ومني »ممثلاً للأدباء الشباب« وأذكر أنني في أول يوم لزيارتنا، فوجئت بجرس التليفون يدق في حجرتي بالفندق وكانت الساعة الخامسة صباحاً، وعندما رفعت السماعة لأرد بضيق علي من أيقظني في هذا الوقت المبكر لأنني ممن يسهرون الليل جاءني صوته قائلاً: »أفق خفيف الظل هذا السحر.. لا تدعي النوم وناجي الوتر« وقبل أن أعاتبه لإيقاظي في هذا الوقت، قال لي: »فيه حد يخسر الصبح كده؟!« وهكذا عرفت انه يستيقظ كل يوم في هذا الموعد ليبدأ الكتابة حتي الساعة العاشرة، ثم يتفرغ لمهامه كرئيس تحرير مجلة أكتوبر، وأية ارتباطات أخري، وأكد لي أن ساعات الصباح المبكر هي أفضل الساعات في الكتابة والإبداع، ويبدو أنه استثمر صباح تلك الأيام في موسكو ليؤلف كتابه الجديد عن رحلتنا التي رصد تفاصيلها بدقة مذهلة!. ثم توطدت علاقتي معه أكثر عندما أصر علي طبع ونشر كتابي »الطوفان« في »دار المعارف« التي رأس مجلس إدارتها، وعلق عليه في مقالاته بحب وتقدير. وعندما كنت مستشار مصر الإعلامي في الهند سألني رئيس مؤسسة ثقافية كبري عن »أنيس منصور وأعماله«، فوفرت له كل المراجع والمصادر، وكانت المفاجأة أن تلك المؤسسة الثقافية الهندية الكبيرة اختارته »أديب العام« ومنحته جائزتها، ثم حددت لرئيسها »مستر هاندرا« موعداً لزيارة القاهرة ليلتقي معه ويسلمه الجائزة وان كانت لم تنج من تعليقه الساخر عندما قال لي انها لا توازي في قيمتها المادية ما يحققه نشر أحد كتبه!. هذا وقد تعرض أنيس منصور لحملات صاخبة بسبب موقفه المساند للتطبيع ولقاءاته مع القادة والكتاب الإسرائيليين و»افتري عليه« البعض بكلمات كانت تمس وطنيته ومكانته، إلا أن عطاءه الثقافي المتدفق الرائع أوقف تقريباً تلك الحملات حتي ان منتقديه كانوا لا يملكون إلا قراءة عموده اليومي بالأهرام وما يصدر من مؤلفاته الجديدة بإعجاب متجدد. وحيث انه ما عاد يفتري علي أحد، وما عاد أحد يفتري عليه يظل إعزازنا وتقديرنا لعظيم عطائه دافعاً الي العمل علي تكريم اسمه وتخليده بدءاً من إطلاق اسمه علي قصر ثقافة »المنصورة«المدينة التي ولد ونشأ وتألق وارتبط بها.