كان الدكتور فؤاد زكريا، استاذ الفلسفة الراحل، يؤكد دائماً ان النص الديني في حاجة إلي البشر لكي يصبح حقيقة واقعة ويطبق في مجال انساني ملموس.. وكتب في احدي دراساته - »الصحوة الاسلامية في ميزان العقل»- يقول ان تفسير النص الديني علي يد إنسان ما يظل أمراً لا مفر منه حتي يصبح هذا النص، حقيقة واقعة، وهكذا يبدو من الضروري وجود »توسط» بشري من نوع ما بين النص وبين الواقع. وهنا يتوقف الدكتور فؤاد زكريا لكي يلفت نظرنا إلي أن كافة الاخطاء والتحيزات التي يتعرض لها بنو الانسان تحدث نتيجة عملية التوسط البشري المشار إليها.. فإذا كان النص إلهياً مقدساً، فإن من يطبقه ويفسره انسان يتصف بكل جوانب الضعف البشرية، وأخطر ما في الأمر ان الانسان الذي يتصدي لهذا التفسير والتطبيق، سواء أكان رجل دين يشغل منصباً كبيراً أم كان حاكماً تستند سلطته إلي أساس ديني، يضفي علي نفسه قدراً (يزيد أو ينقص) من تلك القداسة التي تتسم بها النصوص الدينية .. فهو يقدم أوامره أو فتاويه للناس بوصفها تعبيراً عن رأي الدين ذاته، لا عن فهمه - هو - للدين، ويصف معارضيه بأنهم أعداء الدين، لا بأنهم يختلفون مع طريقته الخاصة في تفسير الدين. والدكتور عثمان الخشت، رئيس جامعة القاهرة، علي حق عندما يقول إن الخطاب الديني القديم اشبه بالبناء القديم الذي نحتاج إلي أن نرممه.. لا أن نهدمه بل نعتز به، لكن لا يمكن ان نسكن فيه، مثل أي بناء قديم، فالخطاب الديني القديم أسهام كبير، لكنه لا يناسب عصرنا، لأنه صنع لعصر غير العصر الحالي. لذا نحن بحاجة لخطاب ديني جديد.. يراعي تطور العلوم الإنسانية والطبيعية. ويري الدكتور الخشت »ان قبول التراث كله لا يقل حماقة عن رفضه كله، وأننا نحتاج لثورة عقلية علي طرق التفكير الحاكمة لحياتنا، لأن أقوال السابقين واللاحقين ليست ديناً». وفي عالمنا العربي، شهدنا خطاً دموياً لم يكتف بالحصار المتعدد الأساليب للأدمغة بل تعداه إلي التصفيات الجسدية، وأصبحت العقول مهددة بالتصفية ومحاصرة بهالة من القلق والرعب، وشهدنا شراسة العقلية البدائية وهمجية القوي الظلامية تقف في مواجهة كل فكر نير وحر، بل اصبحت ظاهرة اغتيال العقول وحصار الأدمغة هي السائدة مع ابتداع اساليب البطش بحرية الفكر والابداع. العقل العربي يقف اليوم أمام الامتحان الأصعب: هل يثابر ويحاور ويناقش ويقاوم ويعلن استقلاله. أم يخضع للجمود والتعصب والتزمت وضيق الأفق والديماجوجية؟ نصادف في عالمنا العربي نماذج لا تصلح للحياة، ولا يمكن أن تصنع حاضراً أو تبني مستقبلاً.. فهناك من لا يعرف كيف يفكر بطريقة خلاقة منتجة ويطرح معرفة جديدة أو يبتكر علماً من العلوم. ثمة هشاشة وتهافت وخواء.. وتبسيط وأبتزال، وخاصة عندما نجد من لا يسكنه هوي المعرفة ولا يهتم بأن يعرف ما لا يعرف، ويركز كل جهده لتبرير المعلوم والمسموع، والمنقول، ويعتبر السلف أعلم منا بشئون دنيانا، وما علينا سوي إتباعهم. وإذا كان لنا أن نجتهد.. ففي الفروع والتفاصيل!!