أذكر انه منذ عدة سنوات - »في السبعينيات« - كنت في زيارة لأحد الاصدقاء الأدباء في لبنان، كان معي زميل اعلامي معروف لاحظ اننا في طريقنا الي منزل مضيفنا - في طرابلس - قد امتلأت الشوارع وجدران المنازل بصور الزعيم الراحل جمال عبدالناصر. ولأن زميلي هذا كان ممن انضموا الي حملة مغرضة لانتقاد سيرة عبدالناصر، فقد فاجأ الادباء والصحفيين الذين تجمعوا في منزل صديقنا احتفاء بنا، بأن انطلق ساخرا من الذين يعلقون تلك الصور، ويتهمهم بأنهم لم يعرفوا اخطاء وسلبيات عبدالناصر، وهنا انفجر الحاضرون جميعا ودون استنثاء في الرد العنيف علي زميلي هذا حتي ان احدهم قال لي معاتبا: لماذا احضرته معك، والدعوة موجهة لك وحدك؟ ولم اجد ما ادافع به عنه خاصة وانهم كانوا يتابعون باستياء تلك الحملة ضد عبدالناصر التي قادها من كانوا ينافقون من جاء بعده، المثير اننا »أنا وزميلي اياه« قمنا بعد ذلك بزيارة للكويت، وتكرر فيها نفس ما حدث في لبنان تقريبا حيث ابدي اللبنانيون والأدباء الذين اجتمعنا معهم في منزل احد الاصدقاء الاذاعيين استياءهم وضيقهم ورفضهم القاطع لأي اساءة للزعيم عبدالناصر، وقد يبدو للبعض أنني عدت بذاكرتي الي تلك الوقائع بمناسبة الذكري ال »14« لوفاة عبدالناصر، لكن ما دفعني اكثر الي ذلك هو مشهد تكرر خلال الشهور الاخيرة بما يمثل ظاهرة »جديرة« بالدراسة والاهتمام، ويتجلي هذا المشهد في قيام الجماهير التي خرجت للتظاهر ضد أنظمة الحكم الفاسدة والفاشلة في مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا قد رفعت صور عبدالناصر برغم غيابه ورحيله منذ أكثر من اربعين عاما!! وادراكها لما قدمه الرجل لمصر وللامة العربية، وما مثلته شخصيته من قيم ومباديء غابت عن دولنا سنوات طوال منذ رحيله، لقد وجدت هذه الجماهير في عبدالناصر نموذجا للزعيم العربي الذي قاد ثورة ضد الاستعمار وانحاز بشدة الي الفقراء والطبقات الكادحة وحارب الفساد مثلما حارب الجهل والمرض، وانشأ اكبر عدد من المصانع التي اتاحت فرص العمل للشباب ووضعت أسس قاعدة مهمة انطلقت منها فعلا نهضة صناعية، الي جانب مشروع »السد العالي« العظيم الذي انقذ مصر عدة مرات من الجفاف أو من الفيضان! كما اسهم في دعم الطاقة الكيمائية، ثم هل ينسي احد كيف غرس عبدالناصر في النفوس والعقول الشعور بالعزة والكرامة، ومثلما كان كل مصري يزور أو يعمل في دول عربية يحظي بالاحترام والتقدير، كان كل عربي يزور دولا اجنبية يحظي هو الاخر بنفس المشاعر والمواقف الايجابية لما اكدته سياسة ناصر من احياء للقومية العربية، وبعث لامكانياتهما وقدراتهما واسهام فعال في حركة »عدم الانحياز« التي كان عبدالناصر أحد قادتها الكبار. كثيرة هي الانجازات.. وكثيرة هي القيم والمباديء التي تجسدت في شخصية الزعيم الراحل الذي لا تفارقنا ذكراه، بل تفرض نفسها علي كل من جاءوا بعده فتكشف الفساد والمفسدين والفشل والفاشلين وتلهم الجماهير بالثورة تطلعا الي حياة افضل. قالها الابنودي ملامحنا رجعت بعد غياب دلوقت بس اللي فهمناه في قلبه كان حاضن امه ضمير وهمه ومباديء ساكنين في صوت عبدالناصر عشنا الحياة وياه كالحلم فلا فساد ولا رهن بلاد يومها انتشينا ثقافة وعلم وف زمنه ما عشناش أحاد.. كنا جموع في زمن ناصر وتقولها ثورة 52 يناير تقول ثورة 52 يناير للزعيم الراحل في ذكراه اننا علي الدرب سائرون ولا بديل عن الحرية والعدالة الاجتماعية وطهارة اليد الحقيقية، واذا كانت الديمقراطية قد غابت عن مسيرتك لظروف داخلية وخارجية فإننا لن نتنازل عنها، ولن نتنازل عن معاداة الصهيونية والاستعمار وكل من يسعي الي الاستهانة بنا، ومثلما قلت لكل مصري »ارفع رأسك« فإننا بثورتنا قلناها من جديد »ارفع راسك انت مصري«.. واذا كان حلمك بالوحدة العربية قد اصطدم بالمخططات والمؤامرات الغربية، فإن ربيع الثورات الذي اطلقناه في مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا »والبقية تأتي« سوف يعيد للأمة توازنها وتماسكها ووحدة صفوفها حتي تستعيد مكانها ومكانتها علي خريطة العالم المتقدم. يعتذر الكاتب الكبير يسري الجندي عن عدم كتابة مقاله »خاطرة« لسفره خارج مصر