البداية الصحفية ل »آنا بوليتكوفسكايا« كانت أثناء حكم »بريجنيف« حيث عملت في الصحيفة السوفيتية الأولي آنذاك:»إزفيستيا«، أما بدايتها الجادة في خدمة كشف الحقائق فتؤرّخ منذ انتقالها للعمل في أسبوعية اسمها:»أوبتشكايا جازيتا« خلال فترة حكم »بوريس يلتسين« ، التي شهدت انفتاحاً صحفياً مشهوداً بدأه »ميخائيل جورباتشوف« وواصله من بعده »يلتسين«. الحرية التي حظي بها الصحفيون الروس حينذاك شجعت »آنا بوليتكوفسكايا« علي اقتحام قضايا غير مسبوقة، مثل التنديد بالفساد، صعوداً إلي شن حملة شرسة ضد التدخل العسكري الأول للقوات الروسية في ال »شيشان«، من خلال التحقيقات التي قامت بها، وسجلتها بالصورة والقلم. ولفتت تحقيقاتها نظر المسئولين عن صحيفة »نوفايا جازيتا« المعارضة، وعرضوا عليها العمل معهم، وهو ما رحبت »آنا« به، باعتبار أن تلك الصحيفة تمثل الصحافة التي ما تزال تقاوم السقوط كما سقط غيرها فيما يسمي: »التطبيع الصحفي مع النظام« الذي بدأه »يلتسين«، واستمر العمل به مع من جاء بعده. وقيل إن صحيفة »نوفايا جازيتا« أصبحت الملجأ الأخير لمعارضي، ورافضي، »تطبيع، وتطويع الصحافة مع النظام الحاكم«. وصول »فلاديمير بوتين« إلي الحكم في مارس 2002 أعطي دعماً قوياً لفرض »تطبيع«، و »تطويع« الصحافة.. مستخدماً تحقيق ذلك الخيار بين »الترغيب«و»الترهيب«! في كتاب: »هل ماتوا هباء؟« الذي صدر مؤخراً في فرنسا صفحات عديدة تروي حكايات مثيرة عن تداعيات »تطبيع العلاقات الصحفية مع النظام الحاكم«. قرأت أن الإلحاح علي هذا التطبيع أجبر الكثير من مشاهير الصحفيين الروس علي التخلّي شيئاً فشيئاً عن »الكلمة الحرة«.. طوعاً، أو كرهاً! الصحفية الدءوبة »آنا بوليتكوفسكايا« حافظت علي موقفها، وتمسكت باستقلالها، ولم تضعف أمام الإغراء، كما لم تخف من الترهيب. لم تكتف بنقد أخطاء نسبتها للقوات الروسية، وإنما صعّدت هجماتها، واتهاماتها، لتستهدف الكرملين وأهم المقيمين فيه: »فلاديمير بوتين« بصفة خاصة! شككت في سياساته الداخلية منها قبل الخارجية. طعنت في مصداقية الحرب ضد الإرهاب التي يخوضها، بدليل أن الإرهاب لا يزال يوجه ضرباته العنيفة ضد المدنيين الأبرياء.. الواحدة بعد الأخري. والموقف المعارض الذي حافظت عليه صحيفة » نوفايا جازيتا« كان ثمنه باهظاً علي الصحيفة، وعلي كتابها ومحرريها. إثنان منهم تم اغتيالهما برصاصات أطلقها مجهولان لاذا بالفرار! وإثنان آخران لقيا حتفهما في ظروف غريبة لم يكشف غموضها حتي الآن! و صحفية خامسة اسمها: »آناستاسيا بابوروفنا« نجح مجهول في اغتيالها في يناير عام 9002. هذه الاغتيالات كلها لم ترهب »آنا بوليتكوفسكايا«، ولم تقنعها بالتهدئة. كما لم تتأثر أو تتغير عندما مارسوا ضغوطاً عليها. وكان ردها: المزيد من كشف الأسرار، و المزيد من فضح الأكاذيب! لم تهتم »آنا« عندما منعوا استضافتها في برامج التليفزيون الحكومي. ولم تقلق من كثرة الخطابات والرسائل الإلكترونية التي تلقتها وكلها تهددها بالأذي والحرق والاغتيال. ولم ترتعد، أيضاً، عندما تم القبض عليها في عام 2001 بواسطة رجال من المخابرات الروسية أثناء قيامها بتحقيقاتها في »الشيشان« وإخضاعها للتحقيق يومين وليلتين ومصارحتها باحتمال قيامهم باغتصابها، ثم قتلها إن لم يردعها الاغتصاب! ولولا تدخل إدارة تحرير صحيفة »نوفايا جازيتا« لدي وزارة الدفاع الروسية لما أمكن الإفراج عنها، والسماح لها بالعودة إلي موسكو. ولم تتوقف الضغوط عليها بهدف إجبارها علي التطبيع أو التطويع مع التصعيد فيها مرحلة بعد أخري. فبعد التهديد انتقلوا إلي التنفيذ. استخدموا سموماً للتخلص منها. منها السم الذي يحتاج إلي أيام عديدة قبل سريانه، ولحسن حظها أمكن إنقاذها من الموت في آخر لحظة. وفي النهاية.. تقرر اغتيالها رمياً بالرصاص أمام مصعد منزلها وهو ما تم في أكتوبر 6002. التخلص من الصحفية جسدياً لم يكن كافياً. أرادوا القضاء عليها معنوياً بعد موتها. و وجدوا للأسف زملاء وزميلات لها يمسكون بأقلامهم ويكتبون ما يملي عليهم من قصص وحكايات عن »آنا بوليتكوفسكايا«، التي لا يعرفها غيرهم! من هؤلاء رئيس تحرير صحيفة »إزفيستيا« »فلاديمير مامونتوف« الذي ألمح إلي أن »آنا« انخرطت في نشاطات مشبوهة، ومثمرة في الوقت نفسه! والصحيفة الاقتصادية » كوميرسانت« شككت في ولائها لبلدها بزعم أنها ولدت في نيويورك عندما كان والدها عضواً في الوفد السوفيتي لدي مقر الأممالمتحدة وتحمل بالتالي الجنسية الأمريكية إلي جانب الروسية! و قلم آخر كتب يتهم »آنا« بأنها تتحدث لغة أوكرانيا بنفس طلاقتها بالروسية، وكأن ذلك يشكل خيانة عظمي!