في الاحتفال بعيد العمال أول مايو خرجت إلي شوارع وميادين موسكو تظاهرات عديدة. الأولي: مؤيدة للنظام الحاكم. الثانية: تضم الآلاف من المتمسكين بالشيوعية والرافضين للرأسمالية التي جاءت علي أنقاض ما كان يسمي بالاتحاد السوفيتي. والثالثة: تضم المئات وتمثل اليمين المتطرف وتهاجم رئيس الحكومة تحت شعارات ولافتات ضخمة تقول:»بوتين هو ستالين« و »بوتين هو بريجنيف«، منددة بالنظام الحالي الذي يحكم بنفس أسلوب الشيوعية: قمعاً، وقهراً، وحظراً لحريات وحقوق الإنسان، ومنعاً لتعدد الأحزاب، وتجريماً للرأي الآخر، وقصف رقاب وأقلام الصحفيين والإعلاميين »المشاغبين«، والذين لا يعجبهم العجب، فيكثرون من النقد ويتجاهلون الإنجازات. ما حدث في موسكو احتفالاً ب »عيد العمال« ذكرني بصفحات مفجعة، دامية، قرأتها في كتاب »هل ماتوا هباء؟« كشف فيها المؤلفان الفرنسيان (Jean lacouture, Jean-claude guillebaud) الستار عن تفاصيل جديدة، وخطيرة، للتخلص من الصحفية الروسية »آنا بوليتكوفسكايا« التي تم اغتيالها بدم بارد، عام 2006، وخلال حكم الرئيس الروسي الديمقراطي، المحافظ علي حقوق الإنسان، الحريص علي الرأي والرأي الآخر: »بوتين«! بدأت تنفيذ المؤامرة في الساعة الرابعة من بعد ظهر يوم7أكتوبر2006، وأمام المنزل رقم 8 بشارع »ليسنانيا« بوسط العاصمة موسكو. سيدة في الثامنة والأربعين من عمرها، أوقفت سيارتها أمام هذا العقار الذي تقيم في إحدي شققه. اليوم كان صعباً، ومشحوناً. فقد ذهبت لزيارة أمها »رئيسا مازيبا« في المستشفي الذي تعالج فيه من مرض السرطان، بعدها التقت بإبنتها الحامل: »فيرا«، ثم توجهت إلي »سوبر ماركت« لشراء ما تحتاجه منه. ولأن »آنا بوليتكوفسكايا« كانت مشغولة بالتفكير فيما ستكتبه في مقالها الجديد ضمن سلسلة مقالاتها الرائعة التي دأبت علي نشرها في صحيفة: (novaia gazeta) عن »التعذيب في الشيشان« فربما لم تلحظ أنها ملاحقة بامرأة ورجلين! تركت الصحفية سيارتها وتوجهت إلي مدخل العقار الذي تقيم فيه، وسجلت عدسة المراقبة في أعلي الباب دخول الرجلين المجهولين وراءها مباشرة، مما يعني أن لديهما »كود« فتح الباب رغم أنهما ليسا من سكان العقار! وضعت »آنا« ما كانت تحمله من أكياس البقالة أمام باب المصعد، وعادت إلي السيارة لتأتي ببقيتها، ثم استدعت المصعد ليقلها إلي شقتها في الطابق السابع. وفي اللحظة التي سحبت »آنا« فيها باب المصعد بعد توقفه في الدور الأرضي فوجئت بأحد الرجلين يشهر مسدساً مزوداً بكاتم الصوت ويطلق عليها بضع رصاصات، لتسقط قتيلة ويسارع الرجلان بعدها بالهروب! الغريب أن القاتل ألقي بسلاحه علي الأرض إلي جانب الجثة! تبين أن المسدس من طراز »ماكاروف« عيار 9ميللي، وهو نفس الطراز ونفس العيار في أيدي معظم أفراد الشرطة الروسية! بعد دقائق معدودة.. اكتشفت إحدي المقيمات في العقار جثة جارتها الصحفية، وأسرعت بإخطار الشرطة. وتبين بعد الكشف أن »آنا« تلقت رصاصتين. الأولي أصابت القلب، والثانية اخترقت جبهة الوجه. وفهم رجال الشرطة علي الفور أن الجريمة قام بها »محترف« وليس من الهواة. وتدفقت الملاحظات، والتعليقات، والإشارات.. اتضح أن »آنا بوليتكوفسكايا« أو »آنيا«.. كما يسميها أفراد الأسرة والأقارب هي رقم (3) من قائمة الصحفيين الذين تم اغتيالهم والتخلص من شغب كتاباتهم، منذ عام 2000 الذي بدأت فيه ولاية الرئيس »فلاديمير بوتين«. ولعلها مصادفة أنه في نفس اليوم الذي تم فيه اغتيال الصحفية الروسية، غادر الرئيس »بوتين« موسكو، متوجها إلي مدينة »سانت بطرسبورج« مسقط رأسه ليحتفل مع أسرته بعيد ميلاده الرابع والخمسين. وكان البعض يتوقع أن يصدر عن »بوتين« تعليق علي جريمة الاغتيال، لكنه لم يعلق آنذاك. بعدها بأيام.. قام »بوتين« بإحدي زياراته لألمانيا. وأمام الصحفيين .. تحدث الرئيس الروسي بجفاء عن كتابات »آنا بوليتكوفسكايا«، وهوّن كثيراً من تأثير تلك الكتابات علي المجتمع الروسي، ثم أضاف قائلاً. مُستخفاً: » .. وعلي العموم، فإن اختفاءها سيلحق خسائر بروسيا أكثر مما أحدثته مقالاتها«! .. وللحديث بقية.