ربما هي المرة الأولي التي يخرج فيها المصريون بالمئات بل الآلاف لاستقبال ضيف دون أن يكون ذلك بحشد وترتيب من السلطة الحاكمة، وربما لم يخرج في تركيا نفسها مثل هذا العدد لاستقبال رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان سوي عقب عودته من مؤتمر دافوس نهاية يناير 2009، لكنها مصر الثورة خرجت لتستقبل أردوغان الكرامة، في مظهر سيظل محفورا في الذاكرة المصرية والتركية لعقود قادمة. لقد خرجت هذه الألوف لتعبر عن تقديرها للرجل الذي واجه الصلف الإسرائيلي بشموخ، وطرد السفير الإسرائيلي ومعه باقي البعثة الدبلوماسية الإسرائيلية ثأرا لكرامة ودماء أبناء وطنه الذين قتلهم جنود الاحتلال بدم بارد في المياه الدولية بالبحر الأبيض المتوسط في سفينة مرمرة، وهو الرجل الذي جمد المعاهدات والإتفاقات العسكرية مع إسرائيل، والذي صرخ في وجه رئيس إسرائيل بيريز في مؤتمر دافوس بسبب حرب غزة بينما بقي الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسي ملتصقا بكرسيه.. خرجت هذه الألوف لتؤكد تقديرها لقائد انتصر لقضايانا في الوقت الذي تهاون فيه قادتنا، وأعطي درسا في الثأر للكرامة في الوقت الذي تخاذل فيه قادتنا، وأخلص لشعبه ووطنه فاحاطته الجماهير بمحبتها، هي الألوف التي تبحث عن " صلاح الدين" فلم تجده حتي الآن، ووجدت في أردوغان شبيها.. هذا الاستقبال يعني أيضا ترحيبا بقائد ملك قلوب غالبية شعبه، ومكنته شعبيته من تقليص دور العسكر إلي حدود لم يكن أحد يحلم بها قبل سنوات، وهم الذين ظلوا يحكمون تركيا سواء بشكل مباشر أو من خلف الستار لعقود طويلة منذ تأسيس الجمهورية الأتاتوركية. يمثل أردوغان( 57 عاما) نموذجا للحاكم العصري ذو الخلفية الإسلامية، والذي نجح للمرة الأولي علي خلاف كل رؤساء وزراء تركيا السابقين بسبب عطائه وشعبيته في أن يحتفظ بموقع رئاسة الوزراء منذ مارس 2003، وقبلها كان رئيسا لبلدية أسطنبول من 1994 إلي 1998 وهي الرئاسة التي فتحت له الطريق لرئاسة الوزراء، رغم أنه لم يكن يجد في صباه ما يسد به مصروفاته الدراسية بسبب انتمائه لأسرة فقيرة فلجأ لبيع السميط والبطيخ، وفي العام 1998 تسببت بعض أبيات الشعر التركي الحماسي في حبس أردوغان ومنعه من تولي وظائف عليا بسبب اتهامه بالتحريض علي الكراهية الدينية وهذه الأبيات تقول (مساجدنا ثكناتنا، قبابنا خوذاتنا، مآذننا حرابنا، والمصلون جنودنا، هذا الجيش المقدس يحرس ديننا)، ونظرا لقوة المؤسسة العلمانية في تركيا، وهيمنة الجيش علي السياسة وتدخله المستمر فيها، فقد حرص أردوغان علي التعامل بحكمة وهدوء مع الأمر فاغتنم فرصة حظر حزب الفضيله ليؤسس حزب العدالة والتنمية عام 2001 باعتباره مجرد حزب محافظ، وهكذا قدم الرجل نموذجا حكيما في ترويض العلمانية التركية، مكنه في النهاية من الإنتقال الحقيقي والهادئ بتركيا من الخضوع لهيمنة العسكر إلي حكم مدني حقيقي نسعي نحن لتحقيقه في مصر، ويبدو أن هذه دلالة أخري للاستقبال الشعبي الحافل لأردوغان.