"في صحبة أحمد بهاء الدين" كتاب صادر عام 2008 للزميل الكاتب والصحفي الكبير مصطفي نبيل الذي رحل عنا منذ عدة أسابيع ففقدنا قيمة فكرية وإنسانية، تصفحت الكتاب مجددا وأنا أقلب في مكتبتي وشرد ذهني وذاكرتي ترجع للوراء عند رموز انشغلت، رغم الاختلافات بينها، بمعارك المستقبل ولم تختلف أبدا علي الوطن واتسمت نظرتها بالاستنارة والعقلانية، مصطفي نبيل الذي كان يحتفي بأستاذه يشير إلي أن هناك محاوراً في فكر بهاء في مقدمتها فكرة الوطنية الصافية، وأن الاستقلال بداية رحلة شاقة بلا نهاية، وتأتي بعدها حرية المواطن، ثم القضية الاجتماعية لأنه لا يمكن أن ينهض الوطن مع الفقر والفاقة، بل كان يربط الأمن القومي بمقاومة الفقر. ذكرني مضمون الكتاب بجيل من الكبار الذين افتقدناهم أمثال كامل زهيري ومحمد عودة وعبد الوهاب المسيري ورجاء النقاش ويونان لبيب رزق وصلاح الدين حافظ وعادل حسين ومحمد السيد سعيد، ومن قبلهم فتحي رضوان وحلمي مراد وعبد الرحمن الشرقاوي ومحمد الغزالي وخالد محمد خالد وغيرهم ممن أثروا عقل مصر ودافعوا عن استقلالها وهويتها وحقوق مواطنيها في وطن حر يتسع للجميع، لا يفرق أو يميز بين أبنائه، كانوا أصحاب فضل علي أجيال كثيرة، وكانوا علي يقين بحتمية التغيير وزوال نظام فاسد ومستبد وتابع لا يعرف قدر مصر ولا دورها ولا مكانتها. نعم أتذكرهم الآن وقلبي يخفق ومصر تقف بعد ثمانية شهور من ثورتها عند مفارق طرق، مصر التي توحدت كما لم تتوحد من قبل وخرجت الملايين إلي شوارعها وميادينها تنتزع حريتها يتم دفعها دفعا إلي معارك وفتن يبدو فيها الشعب الذي قام بثورته منقلبا عليها، وتحول أول استفتاء حر إلي فتنة وأسئلة تحولت إلي مواجهات، الانتخابات أولا أم الدستور، مبادئ حاكمة للدستور أم فوق دستورية أم استرشادية؟ والإرادة الشعبية أم إرادة الأقلية، وانتقلنا من الفتنة إلي الافتتان ومن مليونيات الوحدة والانتصار والتوافق إلي مليونيات وتجمعات "يا أنا يا أنت"" ودعوات لطهارة الميدان ثم تطهيره ثم أمُّ المعارك بتحرير "ميدان التحرير من روح الثورة ودماء الشهداء"، وبدلا من رفع رايات الوطن ارتفعت رايات خنادقنا السياسية، وبدلا من شعار "ارفع راسك فوق انت مصري" نادي كل علي بضاعته وجعلنا من هويتنا التي حسمت من آلاف السنين محلا للسؤال! ودخلنا في مباريات خاسرة بين نفاق الثوار ونفاق المجلس العسكري، أو بين من صنعوا الثورة وبين من يريدون سرقتها. علي المقابل ونحن في غفلة أو نحن متورطون وجدنا الرئيس المخلوع يلوح بالتحية من قفص المحاكمة وهو يمثل دور المريض والمتهم، وابنه يلوح بعلامة النصر، والثاني يضع يده في جيبه وكأنه في نزهة علي الكورنيش والأخري علي عدسة الكاميرا ليمنع التصوير في عنجهية ابن الحاكم، وليس السجين سارق أموال الشعب! وتزامن مع ذلك ضرب أمهات الشهداء خارج المحكمة علي يد فلول مبارك المنظمة والممولة التي تعمل علنا "وعلي عينك يا تاجر" وتحظي بكل الرعاية، في حين يمثل الشباب أبناء الثورة الواحد تلو الآخر من أصحاب الرأي الذين ربما يختلفون معنا أو نختلف معهم أمام المحاكم العسكرية.. تتعدد الأسباب والتصعيد واحد والدلالة غير خافية والوعد باقتصار هذه المحاكمات علي البلطجية يمحوه الغضب. إذن ما الذي يحدث؟ القوي السياسية التقليدية والورقية تمارس اللعبة علي طريقتها القديمة.. والقوي الجديدة حائرة غير مرتبة التنظيم والأفكار ولم تأخذ وقتها بعد.. وشباب الثورة لا يمارس من السياسة في الغالب إلا الاحتجاج، والانفعال عندهم يأخذ من طاقة الفعل، الجميع يحاول اختطافهم بالترهيب والترغيب وهم في اختبار تاريخي، بل إذا أصدقنا القول إننا جميعا في هذا الاختبار.. فهل من منجٍ ودماء الشهداء لم تجف بعد؟!