كأنني أري الكاتب الصحفي الكبير والمفكر الموسوعي أحمد بهاء الدين يعود إلي الحياة أمام عيني, في شخص العشرات من أبناء قرية الدوير التي ولد بها بمركز صدفة في أسيوط, والذين احتشدوا في المركز الثقافي الجديد الذي افتتحناه أخيرا ليكون بؤرة إشعاع حضاري في هذا الجزء القصي من صعيد مصر يواصل رسالة أحمد بهاء الدين التنويرية العظيمة هو مبني أنيق من إبداع المعمارية المصرية الشابة الحاصلة علي الجوائز الدولية شهيرة حامد فهمي, استلهمت فيه المعمار الإسلامي الأصيل بأسلوب عصري مبتكر ووظفته بشكل بارع لاحتياجات المركز اليومية. وقد جاء المركز الجديد الذي افتتحه محافظ أسيوط اللواء نبيل العزبي مع أسرة الراحل الكبير ولفيف من المثقفين المصريين والعرب أعضاء جمعية أصدقاء أحمد بهاء الدين ثمرة للجهود الذاتية للجمعية وتبرعات المحبين لأحمد بهاء الدين, وبهذا المعني فإن هذا المركز هو دليل علي فاعلية المجتمع المدني الذي بدأ ينشط في مصر منذ بضع سنوات, فأكد وجوده الآن علي الساحة الاجتماعية والثقافية مثلما أكد وجوده قبل ذلك علي الساحة السياسية, وهذا في حد ذاته إنجاز لايستهان به, فالدول المتقدمة هي تلك التي يتمتع فيها المجتمع المدني بقوة فاعلة في شتي مناحي الحياة, ولاتكون القوة في كل مجالات الحياة للحكومة وحدها. لقد استطاع اسم أحمد بهاء الدين أن يجمع الأصدقاء من شتي أقطار الوطن العربي الذين جاءوا من الأردن والكويت والجزائر يشاركون أحباءه في مصر هذه المناسبة والذين قطعوا جميعا رحلة شاقة بالطائرة من القاهرة تبعتها رحلة أشق بالحافلات من مدينة أسيوط إلي قرية الدوير لكي يدشنوا هذا المشروع المهم والذي سيكون له إذا أدير بالطريقة السليمة أبعد الأثر في تكوين جيل جديد من أبناء الصعيد يؤمنون برسالة أحمد بهاء الدين التي وهب لها حياته. ويضم مركز أحمد بهاء الدين مكتبتين واحدة عامة والثانية عن فلسطين, وقاعة محاضرات وسينما, ومسرحا صغيرا, وساحات مفتوحة وأخري مغلقة لعمل الورش واللقاءات الثقافية, وهو يجئ في وقت نجد فيه أنفسنا, ليس في الصعيد وحده وإنما في مصر كلها, أشد مانكون احتياجا لما كان يمثله أحمد بهاء الدين. لقد كان أحمد بهاء الدين أولا خير مثالا للتفوق المهني ورمزا للصحفي القدير الذي يمتلك أدوات تلك المهنة السامية, لايوظفها في الإثارة الرخيصة التي نشهدها في صحافة هذه الأيام وإنما في خدمة قضايا وطنه وأمته العربية. ولقد شرفت بأن عملت مع أحمد بهاء الدين حين التحق بجريدة الأهرام في بداية السبعينيات, حيث طلب منه الأستاذ محمد حسنين هيكل أن يشرف علي عدد الجمعة وهو العدد الأسبوعي للجريدة والذي كان توزيعه يزيد علي المليون نسخة في ذلك الوقت, ثم اقتربت منه أكثر حين عين بعد ذلك رئيسا لتحرير الأهرام فكانت رئاسته أفضل فترة مرت بها تلك الجريدة العريقة في المرحلة المضطربة التي تلت خروج الأستاذ هيكل. لكن إلي جانب مقدرة أحمد بهاء الدين الصحفية البارعة والتي أصبحت الآن عملة نادرة في صحافتنا فقد تمتع أيضا بثقافة موسوعية, وظفها في خدمة القراء, فوجدناه وهو المحلل السياسي الذي لايباري يكتب أيضا في الفن ويبشر بالمواهب الجديدة وينفتح علي المشهد الثقافي الدولي, وقد كان أحمد بهاء الدين أول من اهتم في الصحافة المصرية بالتخطيط العمراني وبالتنسيق الحضاري وجعل من جمال أو قبح المدينة قضية شعبية, لكن أحمد بهاء كان قبل ذلك كله وبعده صاحب فكر مستنير وكان من أشد المؤمنين بالقومية العربية هل تذكرونها ليس من منطلق رومانسي حالم وإنما عن قناعة عملية تري أن مستقبل هذه الأمة يرتبط ارتباطا مباشرا بكونها أمة واحدة يجمعها تاريخ واحد وثقافة واحدة ولغة واحدة وآمال وآلام واحدة, وأن مصدر قوتها يكمن في اتحادها مثلما يكمن موطن ضعفها في تفرقها الذي نشهده من حولنا الآن. لقد كان أحمد بهاء الدين من أفضل من كتبوا عن القومية العربية من منطلق علمي وليس من واقع الشعارات الرنانة التي كانت تزخر بها صحافة ذلك العصر وإعلامه, ومن هنا فقد كان من أكبر المحللين السياسيين الذين تابعوا الصراع العربي الإسرائيلي علي مدي قرابة نصف قرن من الزمان ومازالت كتاباته عن إسرائيل والقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي مراجعا لا تتقادم رغم مرور السنين. تلك كانت رسالة أحمد بهاء الدين, وتلك يجب أن تكون رسالة المركز الذي يحمل اسمه.