وأكبرت فيها تواضعها ونكرانها لذاتها، فلعدة أسابيع تراني أتحدث معها ولا أعرف شخصيتها دون أن تشير من قريب أو بعيد إلي نجوميتها الساطعة أذكر ندوة شهدتها مكتبة القاهرة الكبري منذ أعوام، أقيمت احتفالا بمئوية توفيق الحكيم، دار فيها الحديث عن مبدأ التجاوز لما هو مطروح وصولا إلي آفاق أكثر تطورا، وأن دراسة كاتب مثل توفيق الحكيم والاحتفاء بإنتاجه وتراثه إنما هو خطوة لتجاوزه إلي ما هو أفضل، وشاركت في الحديث أبارك مبدأ التجاوز بحثا عن الأفضل باعتباره قاعدة من قواعد التطور والتدرج في مراتب الإجادة والرقي والاتقان، وتحقيق التراكم الذي يثري ويغني الحياة الأدبية والثقافية، ولكنني رأيت أن كلمة التجاوز لا يليق استخدامها في مقام توفيق الحكيم، ومقام أمثاله من أهل التأسيس والريادة، ضاربا المثل بالدكتور طه حسين والعقاد ويحيي حقي ونجيب محفوظ، وغيرهم من أعضاء القلادة الذهبية التي جايلت الحكيم وقامت بدور يكمل دوره في وضع البنية الأساسية للحداثة في الأدب العربي المعاصر. إنهم يظلون كواكب في السماء نرفع أبصارنا إلي أعلي لكي ننظر إليها، ونهتدي بنورها لنري معالم الطريق، وليست كما يصورنها مادة للتجاوز بحثا عما هو أفضل منها، وربما كان التعبير المناسب هو أننا نحتفي بهم وندرسهم من أجل الإضافة إلي ما تحقق من إنجاز، وهذا الموقف هو الذي تتخذه الشعوب من نوابغ الرواد في مجالات الإبداع والفكر، فلا أحد في بريطانيا يتحدث عن تجاوز شكسبير، ولا أحد في ألمانيا يتحدث عن تجاوز جوته، ولا في إيطاليا يتجاوزون دانتي ولا في فرنسا يتجاوزون فولتير. ولا يأتي ذكر هؤلاء الرموز إلا ويأتي في ذهني ذكر الحديث الشريف الذي يعتبرهم وأمثالهم ورثة الأنبياء، وانظر إليهم في ضوء خاص هو ضوء أصحاب الرسالات ممن لا نري صورتهم إلا وهالة تحيط بهم كتلك التي تحيط بأهل القداسة المبجلين. وفي هذا الضوء أري ذلك الكاتب الذي أطلق عليه زعيم الأمة المصرية، لقب الكاتب الجبار، نابغة الكتابة الفكرية والإبداعية الأستاذ عباس محمود العقاد، وأتواصل أحيانا مع إنتاجه كما أفعل مع أمثاله من عباقرة الأدب والفكر، وكانت إحدي آخر مطالعاتي الرمضانية كتابا كبيرا يزيد عن خمسمائة صفحة احتوي عددا كبيرا من اليوميات التي كتبها في الأخبار، وغطت مدة أربع سنوات. ومقارنة بما يحدث في عالم اليوم، فإن المرحوم الأستاذ العقاد، كان بالنسبة لكثير من قرائه، يمثل ما يمثله اليوم محرك البحث جوجل، الذي يذهب إليه الباحثون بأي سؤال في الدنيا فيجدون مادة للإجابة، يقتبسها محرك البحث من أوقيانوس شبكة المعلومات الزاخر بعجائب الردود والمعلومات، بينما يأتي بها الأستاذ العقاد من أوقيانوس عقل كبير جبار، زاخر هو الآخر بفيوض المعلومات في شتي الحقول والمجالات، ولعله ليس مذهلا ولا مستغربا أن يكون التعامل مع عقل إليكتروني مثل عقل جوجل، غير التعامل مع عقل بشر من أهل الفكر والنبوغ مثل العقاد، لأن العقل الصناعي مبرمج علي ما يحتويه، بينما عقل العقاد مبرمج علي البحث والتقصي والتنقيب عن الحقيقة، فهو لن يقدم لصاحب السؤال الإجابة إلا بعد أن يكون قد استوثق منها وغربلها في غربال عقله، وأعطاه نتيجة هذا البحث وهذه الغربلة ليذهب واثقا من صحة الإجابة التي لا يمكن أن يصل إليها الباحث مع جوجل أو غير جوجل من عقول اصطناعية. ربما كان عجيبا مع أي مفكر غير العقاد، ولكن معه لا وجود للاندهاش والغرابة، أن نري الأسئلة المطروحة عليه تتخطي أسئلة المجالات التي كرس لها كتبه من فلسفة وتراجم وأدب وفن وعلم نفس وفكر إنساني عالمي وشعر وتاريخ الشعوب والحضارات، إلي مجالات تخصصية في الفلك وعلم الحشرات وعلم البحار وتاريخ العلل والأمراض بل وعلوم الذرة وتقنياتها، بما يصعب علي عقل غير عقل كبير قادر علي الشمول وجمع هذه العلوم والمعارف مثل العقاد أن يتصدي لها في يسر وسهولة ويجيب عليها باستفاضة ووضوح، أما مواضيع الفكر والدين والآداب، فتلك لا يقتصر فيها علي التعامل مع أسئلة القراء، وإنما يتصدي لأساطينها من أصحاب المؤلفات والتخصص فيتولاها بالقراءة نقدا وتمحيصا وتوجيها وإشادة إذا وجبت الإشادة وتصحيحا إذا وجب التصحيح. ولعل أكثر الكتب شمولا في وصف حياة النابغة العقاد وأبلغها في نقل حوصلة باتجاهاته وأفكاره، هو كتاب تلميذه النجيب الذي اقتدي به في شموله وتعدد اهتماماته الراحل الكبير الأستاذ أنيس منصور، أكرم الله مثواه، عن صالون العقاد، وهو كتاب لا غني عنه لمن يريد أن يرتوي من هذه الشخصية ذات الثراء والغني والوفرة في العلم والمعرفة، رضي الله عنه وأرضاه، ولا أريد أن أغادر هذه المحطة دون اقتراح لوطنه مصر، ينتفع فيه من تراث هذا العملاق من عمالقة الفكر الذي لا يجود الزمان بمثله إلا قليلا، ومن هذا الموقع الأثير لديه، يوميات الأخبار، حيث قضي ردحا من عمره يخاطب الوطن والإنسانية من فوقه، فأقول بأن خروج هذا القلم إلي النور منذ مطلع القرن العشرين إلي وفاته عام 1964، توافق مع أحداث أهمها خروج الفتوحات العلمية بشكل غير مسبوق وتواترها بشكل سريع أوجبته ربما الصراعات الكبري التي حفل بها العالم وتبلورها في حربين عالميتين، أعادتا تشكيل الرؤي والأفكار والتوجهات بما في ذلك مشاعر الناس نحو الله والدين وقصة الخلق والنشور، فقد اهتز الإيمان وخرجت الدعاوي المناقضة لدعاوي التقوي والتدين وفي مقابلها خرجت دعاوي الغلو والتطرف التي ترد علي هذه النزعة التي سببتها صدمة العلم، وصدمة الحرب، وكان طبيعيا لمفكر في حجم العقاد، له منبت ثابت في مصر ذات الالتزام الديني العميق، والتراث التوحيدي الذي يعود إلي عصر الملك أخناتون، أن يكون له موقف ورؤية تستطيع أن تري الحق وتتصدي للدفاع عنه، ولهذا كان قد أعمل فكره الجبار بقوة وإصرار ومثابرة وكتب بتواتر مقالات قوية في شجب الاتجاهين اتجاه العداء للدين واتجاه التطرف فيه، والتعصب لدين دون آخر، ولا أقصد فقط ما ظهر في كتبه من قضايا محددة وهي تلك التي تكلم فيها عن الله جل جلاله، أو عن حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، أو دفاعه عن الحرية ضد الشيوعية والوجودية والفوضوية، وإنما ما هو مبثوث في يوميات الأخبار أو ما جاء في رده علي الأسئلة التي يتلقاها أو أن كتاباته الدينية في مجلة الأزهر، لأنها كلها تصب في صحيح الدين وجوهره الناصع الجمال والبهاء، خاصة الدين الإسلامي الذي يحتضن كل الأديان ويتواصل معها باعتباره امتدادا لها وجزءا منها وباعتبار أن الأديان كلها تعبر عن جوهر واحد وإن اختلفت في الشكل والمظهر، ويرد علي دعاوي المتطرفين والمتعصبين بفكر قوي الحجة، واضح في مفاهيمه ورؤاه، ويتلخص اقتراحي في أن تعكف لجنة من وزارة التربية والتعليم من أهل الاختصاص في تدريس الدين، علي إنجاز منتخبات دينية من كتابات العقاد تعالج المواضيع المطروحة علي عقول الطلاب وتقدمها لهم من خلال هذا المرجع الذي لا سبيل للشك في إيمانه ونزاهته وعلمه وجدارته، وأن تخصص كتابا لكل مرحلة بل هناك ما يكفي من المادة لوجود كتاب لكل فصل من فصول الدراسة المتوسطة والعالية، لتكون ردا يتجاوز كلام الفقهاء الذين يتكلمون من خلال الاختصاص، وقد لا يجد فيه الطالب ما يطمح إليه، وإنما من خلال مفكر ينظر إلي كل الآفاق والأبعاد ويستطيع أن يقدم للطالب مادة تقنعه وترضي فضوله وتقضي علي نوازع الشك في نفسه التي قد تضلله وتأخذه إلي أحد طريقين طريق التطرف أو طريق الإلحاد، وكلمات العقاد قادرة علي سد هذين الطريقين بأبواب حديدية لا سبيل إلي النفاذ منها إلا إلي طريق ثالث هو طريق النور والحق والاعتدال. في وداع النجمة الصديقة آمال فريد حدث أن كنت جالسا بأحد المقاهي عندما تعرضت سيدة متقدمة في السن إلي عملية خطف لحقيبتها، من لص يركب دراجة نارية، لأنه وقف بجوارها، ومد يده يستل حقيبتها، إلا أنها قاومت وأمسكت بالحقيبة لا تتركها، حتي وهي تسقط علي الأرض، وانتبه الناس في الشارع إلي الرجل، وهرعوا لإنقاذ السيدة، فترك الحقيبة، وتحرك هاربا بالدراجة، وعادت السيدة منهكة للجلوس في المقهي فخرجت أتلقاها، وأساعدها علي عبور عتبة الدخول وأجلستها وطلبت لها ماء ثم مشروبا حتي استعاد هدوء أعصابها وانتهي المشهد الكابوسي وهي سليمة معافاة، ودون أن أعرفها أو أسألها عن اسمها صرت التقي بها وأشاركها الحديث في القضايا العامة، إلي أن جاءت إلي الجلسة سيدة تعرفها هي الكاتبة الكبيرة الصديقة زينب صادق مع زوجها الفنان الكبير الدكتور سامي رافع، فإذا بهما يرحبان بتلك السيدة المتقدمة في العمر، لأنهما يعرفانها وجددا تقديمها لي باعتبارها النجمة السينمائية الشهيرة في الأفلام الرومانسية مع عبد الحليم حافظ وإسماعيل ياسين السيدة آمال فريد. وأكبرت فيها تواضعها ونكرانها لذاتها، فلعدة أسابيع تراني أتحدث معها ولا أعرف شخصيتها دون أن تشير من قريب أو بعيد إلي نجوميتها الساطعة التي لم تكن لتفوتني لولا أن الملامح طرأ عليها بعض التغيير، وبإشارة منها كنت سألهج بالثناء علي اللحظات السعيدة والجميلة التي قدمتها لنا عبر أفلامها الكثيرة. وصارت النجمة المعتزلة جزءا من جلسة تقيمها مجموعة من الأدباء والفنانين في مقهي كوستا بشارع جامعة الدول العربية إلي أن حال المرض بينها وبين مواصلة ارتياد الجلسة في الأشهر الأخيرة. وها قد جاء الخبر المحزن الذي يقول برحيلها بعد حياة اعتزال للفن استمرت خمسة وأربعين عاما سبقتها سنوات من التألق والنجومية، شملها الله بواسع رحمته وأكرم مثواها وعوض فيها الوطن والفن خيرا. • روائي ليبي