لا تزال »جمعة المليونية الأخيرة« تثير تعليقات ضدها أو معها ليس فقط في مصر وإنما خارجها أيضاً. الخلاف الشاسع بين المعارضين لها والموافقين عليها يتميز بقاسم مشترك أصغر في اتفاق هؤلاء وأولئك علي أن التيارات الإسلامية هي التي سيطرت علي ميدان التحرير، ورفعت شعاراتها، وأعلامها، وأعلام غيرها، إثباتاً لفرض استعراض قدراتها في جمع هذه الأعداد الكبيرة، وتحكمها في بقائها وفي انسحابها. هذه الحقيقة أصبحت مادة تتباهي بها التيارات الإسلامية، ومصدراً للقلق في الوقت نفسه بالنسبة للتيارات الليبرالية والعلمانية والمدنية الرافضة للدولة الدينية. سمعنا الليبرالي الشهير: د.ممدوح حمزة يعلق علي ما يراه بأن من حق التيارات الدينية أن تحشد قواها، لكنه مع ذلك حمّل التيارات المدنية مسئولية ما حدث نتيجة تفككها وعدم تنظيم ووحدة صفوفها. ورد متحدث باسم تيار ديني قائلاً إن من يستطيع جمع »مليونية في ميدان التحرير«، يكون قادراً علي حشد عشرات الملايين في ميادين مصر كلها. الكاتب العربي المعروف - الأستاذ غسان الإمام- كتب في »الشرق الأوسط« أمس، مقالاً محايداً - تتبع فيه تطورات الثورات الشعبية العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا -بدأه قائلاً: [كان ربيع الانتفاضة العربية قصيراً. وصيفها دموياً حاراً. ثم جاء خريفها حزيناً، قبل الأوان، ومشوباً بقلق وخوف من شتاء طويل عاصف]. وتوقفت أمام ما كتبه الأستاذ غسان الإمام عن »جمعة ميدان التحرير الأخيرة« قائلاً: [في يوم الجمعة الفائت، دخلت الانتفاضة في منعطف خطير. تغيّرت ملامحها الشبابية، تسربلت بالجلباب، اعتمرت بالطاقية. أطلقت اللحي، وانطلقت الأشداق بهتافات، وشعارات، وأناشيد، وأذكار دينية بحتة]. ويري الكاتب العربي أن: [»المتأسلمون« خطفوا الانتفاضة المصرية. تهاوي الكلام عن الحرية والديمقراطية. فقد وضعوا مصر والعرب والعالم أمام واقع سياسي جديد: احتمال الإمساك بالسلطة والحكم، ذلك الحلم الذي راودهم منذ سبعينيات القرن الماضي]. الصورة -كما يراها غسان الإمام- تبدو كواقع مصري بحت، لكنه يتوقع أن البلدان العربية- لا سيما تلك التي تعيش انتفاضات ضد أنظمتها - سوف تتأثر بما يجري في مصر. وهذه الانتفاضات تخالجها أصلاً تيارات إسلامية قوية، كما في الأردن وسوريا والمغرب وليبيا واليمن. وأخطر ما جاء في مقال »غسان الإمام« ترديده وتكراره لما يقلق قطاعات كبيرة من المصريين في هذه الأيام. فمن رأيه أن التيار الذي يستطيع أن يشحن 5.1 مليون مصري إلي ميدان التحرير، مقتنع إلي حد الاطمئنان بأنه: [قادر علي أن يضمن أغلبية كافية في الانتخابات المقبلة. أغلبية تفرض بصمات الإسلام السياسي علي لجنة وضع الدستور، بل ربما تفرض رئيساً إخوانياً. أو سلفياً. أو علي الأقل مسايراً للإخوان والسلفيين. ومن هنا حرص إسلاميون علي إجراء الانتخابات النيابية أولاً. ثم الانتخابات الرئاسية ثانياً. ثم سن الدستور ثالثاً، وتكييفه وفق مفاهيمهم الدينية المتسيسة.. وذلك خلافاً لموقف قادة الانتفاضة الشبابية الذين يطالبون بسن الدستور أولاً]. ميزة مقال كاتبنا العربي الكبير أنه يعبر بصدق وحياد واضحين عما تقوله، وتسمعه، وتردده قطاعات عريضة من غالبية المصريين -أنا أحدهم- الحريصين علي استمرار الهوية المصرية المعتدلة في الالتزام بمعتقداتها الدينية، والمحافظة علي احترم معتقدات الآخرين - من جهة - والحالمين - من جهة أخري - بحاضر ومستقبل ننعم فيه بالحرية، والديمقراطية، والعدالة، والمساواة، والتسامح، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية.. وغيرها الكثير مما حرموا منه.