كان عبد الوهاب يخيف حسين السيد من أم كلثوم وكان يقول له إنها دائمة التغيير في كلمات الأغاني فلم يحاول الاقتراب منها أبدا في منتصف عام 1977 كنت قد تخرجت لتوي من كلية الإعلام بجامعة القاهرة مثل معظم جيلي الذي التحق بالصحافة في هذه الأيام.. كنت في هذا الوقت أعمل في صحيفة »أخبار اليوم» بالصفحة »13» وكنت حريصا علي نشر تحقيق أو حوار أسبوعيا بصفحة المسرح في »الأخبار» وكان يشرف عليها المرحوم حسن عبد الرسول الذي تعلمت علي يديه الكثير من فنون العمل الصحفي رحمه الله. كنت قد انتهيت من تحقيق صحفي عن »سر تراجع الأغنية» وتحدثت فيه العظيمة شادية ومطربة ست الحبايب الراحلة فايزة أحمد والصوت الحنون نجاة والموسيقار سيد مكاوي والموسيقار محمد الموجي والموسيقار كمال الطويل والملحن الكبير عبد العظيم عبد الحق والشاعر الغنائي حسين السيد والشاعر الغنائي مرسي جميل عزيز والشاعر عبد الفتاح مصطفي والموسيقار علي إسماعيل والشاعر عبد الرحمن الأبنودي والموسيقار حلمي بكر والموسيقار محمد سلطان وكثيرون من ملوك الطرب في هذا الزمان. وقلت لنفسي لماذا لا أتكلم مع موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب لكي أختتم التحقيق.. وتجرأت وطلبت عبد الوهاب في منزله.. جاءني صوته الهادئ عبر التليفون.. مين.. قلت له أنا فلان محرر ب» الأخبار».. وبهدوء شديد قال : من يا بني أعطاك رقم التليفون.. فرددت عليه : مش مشكلة المهم حضرتك رديت فقال لي : يا بني أنا باتكلم مع واحد بس عندكم ومش باتكلم مع أي صحفي.. أنت بتشتغل مع مين في الأخبار ! بحماس الشباب واندفاعه قلت له : يا أستاذ عبد الوهاب.. أنا خلصت التحقيق ومش محتاجك تتكلم.. علي كيفك وأنا كلمت كل العمالقة »قال يعني مش محتاجلك» في نفسي وأغلقت الخط غاضبا.. وشعرت أنني رديت علي إهانته لي حسبما ظننت في هذه السن الصغيرة وقلت في نفسي.. إيه يعني عبد الوهاب.. في صباح اليوم التالي.. وجدت عم زكي رحمة الله عليه وكان من علامات استعلامات أخبار اليوم ينادي عليّ قائلا : الأستاذ موسي بيسأل عليك.. يقصد موسي صبري.. كان مجرد ذكر اسمه لنا أن هناك مصيبة تنتظرك.. أصابني الوجوم لكن كما يقولون الفأس وقعت في الرأس ولابد من الذهاب إلي مكتبه.. صعدت درجات السلالم التي لا تتعدي 10 درجات وكأنني في سباق الصعود إلي قمة جبل.. وجدت مدام آمال سكرتيرته تسألني : إنت عملت إيه.. الريس قالب الدنيا عليك ! المصادفة العجيبة أن الأستاذ موسي في ذلك الوقت لم يكن يعرفني وكنت أتعمد الابتعاد عن طريقه كلما صادفته حتي يتم تعييني بهدوء في دارنا العامرة.. المهم فتحت الباب وسلمتني لمصيري المحتوم.. وقفت في مواجهة الأستاذ موسي الذي كان رئيسا للتحرير ورئيسا لمجلس الإدارة.. كان يجلس علي كرسيه وأمامه أحد كبار الصحفيين الأستاذ محمد تبارك رحمة الله عليه وكان رئيسي المباشر ومعه الحاج عثمان لطفي سكرتير عام التحرير في ذلك الوقت.. سألني الأستاذ موسي وهو يقهقه ضاحكا : إنت عملت إيه للأستاذ محمد عبد الوهاب إمبارح.. قلت باستغراب شديد وخوف من المجهول : لم أفعل شيئا.. كلمته ورفض أن يتحدث معي فأغلقت التليفون.. وبضحكات عالية مستمرة قال : وقفلت الخط في وشه !.. قلت لأ وإذا به يطلب مني أن أقص عليه ما حدث فحكيت ما حدث ليهز رأسه مبتسما : خلاص روح علي مكتبك.. لم يكن لي مكتب ولا يحزنون وذهبت إلي صالة التحرير بالدور الأول وأنا أكلم نفسي.. شكلك كده حتمشي.. يا خسارة السنين اللي فاتت ! لسوء حظي.. كان الأستاذ موسي في مساء ذلك الأمس ضيفا في منزل صديقه الأستاذ عبد الوهاب فقص عليه ما حدث ولأنه لم يكن يعرفني حتي تاريخه فقد دفعه الفضول ليتعرف علي المحرر الصغير الذي تجرأ وأغلق التليفون في وجه موسيقار الأجيال ! ومرت الحكاية بسلام ومن يومها لم أطلب الأستاذ الكبير لكنني تعرفت أكثر علي موسيقار الأجيال الذي كان لا يتحدث لأحد إلا قلة من كبار الصحفيين هم المسئولون عن نشر أخباره وكلهم كانوا يجتمعون أسبوعيا بمنزله بالزمالك.. شلة منعت عنه كل الصحفيين وهو كان سعيدا بذلك.. في ذلك الوقت كنت قريبا من الشاعر الكبير حسين السيد صديق عبد الوهاب ومؤلفه الملاكي كما كان يطلقون عليه.. كان حنونا ومتواضعا إلي أبعد الحدود وكان يمتلك مكتبا خاصا به في وسط البلد يلتقي فيه أصدقاءه وكبار الملحنين الذين يتعامل معهم وخدمني الحظ أن أكون ممن يسمح لهم بزيارته كلما أحتاج لأخذ رأيه في موضوع صحفي وحسين السيد مع حفظ الألقاب كتب لعبد الوهاب معظم أغنياته العاطفية والوطنية منها إجري إجري قوام وصلني وساعة ما بشوفك وما قدرش أنساك وياللي نويت تشغلني ويا مسافر وحدك وحكيم عيون وأحبه مهما أشوف منه والحبيب المجهول وبلاش تبوسني في عينيّ وشبكوني وإنت إنت وما انتش داري وتراعيني قيراط وقلبي بيقول لي كلام وكان أجمل يوم وكل أخ عربي وعلشان الشوك وقل لي عمل لك إيه وبافكّر في اللي ناسيني وخي وفين طريقك فين بيروحولوا منين وعاش الجيل الصاعد ودقت ساعة العمل وصوت الجماهير ولأ مش أنا اللي أبكي وافتكرني وعاشق الروح وقالولي هان الود عليه وعاشق الروح. وهي أغانٍ شهيرة صنعت مجد عبد الوهاب مطربا وملحنا.. حسين السيد كان ضيفا دائما في كل ما أقوم به سواء كان تحقيقا صحفيا أو حوارا. وأشهد أنه لم يرد يوما صحفيا حتي لو كان شابا تحت التمرين وهذا في رأيي المتواضع كان سببا في شهرته الكبيرة إلي جانب عبقريته في التأليف وكان عبد الوهاب سببا كبيرا في عدم تعاونه مع السيدة أم كلثوم فقد وقف حائلا بينه وبينها حتي لا يهرب منه ! كان عبد الوهاب يخيف حسين السيد من أم كلثوم وكان يقول له إنها دائمة التغيير في كلمات الأغاني فلم يحاول الاقتراب منها أبدا حتي أن أغنية »في يوم وليلة» التي غنتها وردة كانت مكتوبة خصيصا للست وبسبب تخوفه منها ذهبت لوردة. رحم الله الشاعر الراحل حسين السيد الذي لم تتح لي الظروف أن أحضر جنازته فقد سافرت مع بدايات الثمانينات إلي الخليج للعمل في صحافته ومات ولم أودعه. ذات الرداء الأسود قبل سنوات طويلة في الإسكندرية.. كنت في ضيافة أحد الأصدقاء.. وعنده سمعت سيدة ترتدي الملابس السوداء وتشدو بأغنية »لعبة الأيام» من كلمات الشاعر الراحل علي مهدي وألحان رياض السنباطي.. لا أكون مبالغا إذا قلت إن صوتها ينافس صوت وردة.. كانت دموعها تسبق صوتها الشجي حتي أنها أبكت معظم الحاضرين وكنت من بينهم.. وعندما انتهت السيدة الغامضة من أداء الأغنية خرجت مسرعة وتركت المكان والتصفيق الحاد يصم الآذان.. تذكرت علي مهدي رحمة الله عليه.. الشاعر الذي أهدي الموسيقي العربية أغنية من الروائع ومعها أغنية أخري شهيرة هي »فوق الشوك» الذي لم تمهله الأيام وتوفي في سن صغيرة فلم يتعد الثامنة والثلاثين من عمره وكان في الإسكندرية أيضا ومات في مياه البحر المتوسط بعد أن هاجمته الأزمة القلبية. دفعني الفضول لسؤال صديقي عن هذه السيدة الغامضة فحكي لي قصتها وأنها صديقة لأسرته وأنه اكتشف صوتها بالصدفة عندما سمعها وأن السيدة الغامضة تغني لزوجها الثري السجين علي ذمة إحدي القضايا وأنها كانت في رغد من العيش حتي دخل السجن وقد أنفقت معظم ثروته علي المحامين لتنقذه من بين الأسوار لكنها لم تفلح. هذه الأغنية الحزينة هي تعبير صادق عن معاناة هذا الشاعر الذي عاش حياة بائسة وهو طفل صغير بعد طلاق والديه.. ولو قدر له أن يعيش لأصبح منافسا قويا في سوق الأغنية العربية.. كان يملك حسا عاليا وثراء لغويا لا يضاهيه فيه أحد وشديد الاعتزاز بنفسه وبأشعاره ولعل حكايته مع أم كلثوم تكشف حرصه الكبير علي كرامته.. فقد اختارت أغنيتين من أشعاره عرضهما عليها محمد عبد الوهاب صاحب لحن »فوق الشوك» للعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ واشترطت ثومة كعادتها ألا يغنيهما أحد سواها.. وظلت الأغنيتان في أدراجها مدة طويلة.. ولاحظ علي مهدي أن بعضا من مفرداته جاءت في أغاني آخرين واتخذ قراره الصعب وهو أن ينشرهما ليحتفظ بحقه القانوني فغضبت ثومة ومن يومها انقطعت الصلة بينهما تماما ومات دون أن يحقق حلمه وأن تغني له الست لكن ما حدث يكشف جانبا مهما من صفاته.. كان يعيش الحياة بطولها وبعرضها.. كان مسرفا بشدة وفي أيام أخري يعاني من شظف العيش.. جعلته أيام الضنا عطوفا علي الفقراء جدا.. وكانت أغانيه كلها نتاج التجربة الحياتية الصعبة التي عاشها علي مهدي فصبغت كلمات أغانيه القليلة البديعة.. والتي ربما أفلتت من حزنها أغنيته مع بليغ حمدي ووردة الجزائرية. »باحبك فوق ما تتصّور وأعزك فوق ما تتصّور وطول عمري.. وأنا عيني عليك يا عيني.. بتدوّر». هذا الشاعر الحزين يشبه الكروان في حزنه.. أنظر إلي مقطع في »لعبة الأيام»: (في يوم ما الدنيا تغدر بك وأيام الهنا تخونك وأيام الضنا تذلك تجيني وتفتكر حبك وأشوف الذل في عيونك أقول نفسي فدا ذلك يا أغلي عندي من نفسي ما بين أملي وبين يأسي ضناني الصبر وجروحي ولولا بقية من رسمي وحرف وكلمة من اسمي لا تاهت عيني عن روحي بتغيرك أيام وتبدلك أيام وبتجيني تلاقيني مع الماضي.. مع الذكري مع الأحلام عشان قلبي أنا أوفي من الأيام). كان علي مهدي شهيرا بكلماته الحزينة حتي أن عبد الوهاب فسر له قتامة كلمات أغانيه بأنها كانت سببا في تخوف أم كلثوم من غنائها حينما اتفقت معه ثم تراجعت واحتفظت بها.. لكن الواقع يكشف لنا أنه شذ عن القاعدة مع بليغ حمدي ووردة في »باحبك فوق ما تتصور» أي أنه كان »صنايعي ماهر» يستطيع أن يكتب بمهارة فائقة كل فنون الأغنية.. وأستشهد بكلماته في »فوق الشوك» وعذوبة اللفظ وتطويع المعني : (لما عيوني لمحوا خياله وروحت وراه خدني في »نار» و»عذاب» و»مرار» و»غلبت» معاه). ومن الجمل الشهيرة في الأغنية: »عايز تعرف فين الحب وفين لياليه. بص في أي دموع تقابلها رح تلاقيه.. آه من الحب ومن اللي رماني وخدني إليه بعد النار والشوك إيه تاني أحن إليه». هل لدينا اليوم سفراء للأغنية بكل هذه الكلمات الجميلة.. أم أنه زمن راح وانتهي واللي بينا خلاص مضي ؟!