إيمانى عميق أن المبدعين لا يرحلون إلا بأجسادهم فقط، إنهم يغيرون عناوينهم، فهم فى حقيقة الأمر باقون أبد الدهر، عائشون فى قلب ووجدان من تعلقوا بفنهم وإبداعاتهم! فبرحيل فنانتنا «دلوعة السينما» و«معبودة الجماهير» شادية مصرنا الحبيبة فقدنا شخصًا غاليًا عزيزًا على قلوبنا، كما لو كانت عضوة فى كل أسرة مصرية .المصاب جد أليم بهذا الفقد لقامة فنية سامقة شامخة ! تغنت بعدد لا حصر له من الأغنيات ومثلت خلال فترة ما يقارب أربعين عاماً حوالى 112 فيلماً و10 مسلسلات إذاعية مسرحية واحدة. تغنت بأروع الكلمات والألحان التى غذت وجدان المصريين بل العرب والعالم الغربى أيضًا الذى احتفى ببعض أغنياتها وأعاد تقديمها مثل اغنيتها الشهيرة «بسبوسة» التى لحنها موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب .فقد حباها الله وأنعم عليها بموهبة فريدة و خامة صوتية نادرة تسكن الأذن وتهب القلوب دفئًا ومحبة وتفاعلًا راقيًا مع مختاراتها من الألحان التى تنم عن ذوق فنيّ رفيع توصله بإحساسها المرهف المملوء بالحنان.. عنايتها بفنها تصل إلى حد الرهبنة الفنية، فهى تكرس كل طاقاتها وتتفانى فى إتقان العمل الفنى التى هى بصدده، فكانت مغنية بارعة من الطراز الأول، وممثلة بارعة فى الوقت نفسه وهذا قلما يجتمع فى شخص واحد، فعطاؤها لاحدود له تنوع بين ألوان الغناء العاطفيّ والوطنيّ والدينىّ، والأداء التمثيليّ لأفلام نجحت نجاحًا منقطع النظير منذ بداية مشوارها الفنى كللته بتقديم مسرحية «ريا وسكينة» فكان الانبهار الجماهيرى بأدائها لهذا الدور أمام ممثلين متمرسين فى الوقوف على خشبة المسرح مثل القدير عبدالمنعم مدبولى وسهير البابلى وأحمد بديرومن إخراج حسين كمال المخرج السينمائى القدير والتاليف لبهجت قمر. مسرحية اجتمعت فيها كل عناصر النجاح والبهجة مازلنا نستمتع بها حتى اليوم، فقد وجدها الجمهور ندًا قويًا بحق امام عمالقة المسرح أقنعتنا بالشخصية وأتقنت مفردات دورها بكل حرفية وكانت مفاجأة العرض وقتذاك . ففى الثامن من فبراير فى العام 1929 جاءت إلى الوجود الطفلة/فاطمة احمد شاكر والتى اشتهرت فيما بعد بالفنانة /شادية بعدما سمعها الفنان عبدالوارث عسر وأطلق عليها اسم «شادية الكلمات» لعذوبة صوتها ؛ انتزعت شادية هذا الحُب الممزوج بالاحترام من قلوب وأرواح كل من تابع مسيرتها الفنية وحتى الحياتية على المستوى الشخصىّ والإنسانىّ.. فالفنان الحقيقى الذى يحترم شخصه وفنه يعرف مدى قيمة تأثير الفن فى وجدان أمته ومصيرها وأن حياته الشخصية لاتنفصم عُراها عما يقدمه من أعمال تعكس صدق التوجه والهدف إيمانًا بعظمة الرسالة التى وهب حياته من أجلها .. ومن هذا المنطلق فى الحكم على هذه الشخصية المتفرّدة ؛ تبلور الاستحقاق المتوج لما أنجزته وتغنت به ( شادية مصر ) على أفنان الإبداع والتألق، حظيت شادية بالعديد من التكريمات تتويجًا لمشوارها الفنيّ الثريّ حتى بعد اعتزالها الفن عندما أكملت عامها الخمسين، وعقبت حول سبب اعتزالها التمثيل والغناء بقولها: « لأننى فى عز مجدى أفكر فى الأعتزال لا أريد أن أنتظر حتى تهجرنى الأضواء بعد أن تنحسر عنى رويدًا رويدًا...لا أحب أن أقوم بدور الأمهات العجائز فى الأفلام فى المستقبل بعد أن تعود الناس أن يرونى فى دور البطلة الشابة، لا أحب أن يرى الناس التجاعيد فى وجهى ويقارنون بين صورة الشابة التى عرفوها والعجوز التى سوف يشاهدونها، أريد أن يظل الناس محتفظين بأجمل صورة لى عندهم ولهذا فلن أنتظر حتى تعتزلنى الأضواء وإنما سوف أهجرها فى الوقت المناسب قبل أن تهتز صورتى فى خيال الناس» والمعروف أنها كرست حياتها بعد الاعتزال لرعاية الأطفال اليتامى.. وعلى ذكر التكريمات أسوق كلمتها فى احتفالية أكاديمية الفنون بها حيث كنت من الحضور فى هذا اليوم المهيب ووجدت أن هذا التكريم صادف أهله تمامًا، جاءت كلمتها المسجلة لتسعد الحضور بقولها: «يا حبيبتى يا مصر... باشكر الأكاديمية التى كرمتنى، ده شرف كبير ليا ربنا يحميكى يا مصر وينصرك يا مصر وتحيا مصر». بهذه الكلمات البسيطة والمكثفة لفظًا ودلالة .. كانت الرسالة الصوتية التى بعثت بها الفنانة الكبيرة المعتزلة ( شادية ) إلى أكاديمية الفنون إمتنانًا لتكريمها بمنحها الدكتوراه الفخرية وذلك بإجماع الآراء من مجلس الأكاديمية برئاسة أ.د.أحلام يونس ؛وكان ذلك خلال الحفل الراقى الذى أقامته الأكاديمية بعنوان « مصر تفخر بعروبتها» كنوع من الاحتفاء بذكرى 25 أبريل وأعياد تحرير سيناء التى كانت مصرتعيش أجواءها عام 2015، وتعبيرًا عن مدى الحُب القلبى الذى يكنه الإحساس الجمعى الشعبى فى مصروالعالم العربى لهذه الفنانة العملاقة التى أسعدت الجماهير طوال مشوارها الفنى الباذخ العطاء والمفعم بكل ماهو صادق وشريف فى حب الوطن منذ نعومة أظفارها، وشدَت بصوتها الشجىْ بكل الكلمات المعبِّرة عن هذا الانتماء الروحى فى أغنياتها الوطنية فى كل المناسبات السياسية والاجتماعية التى مر بها الوطن، وجسدت على شاشة السينما بكل الصدق شخصية البنت المصرية الأصيلة التى تعشق الحرية فى كل صورها، ولعل شخصية ( فؤادة ) فى الفيلم المحفور فى ذاكرتنا جميعا ( شىء من الخوف ) تعكس مدى التزام «شاديتنا» بأهمية الدور الذى يلعبه الفنان فى التأثير على مجتمعه وينفخ فيه من روح الوفاء والانتماء مايجب أن يكون عليه الفرد فى المجتمع المتطلع الى الإنعتاق من التبعية لكل من يحاول أن يفرض الهيمنة والسيطرة عليه ويتحكم فى مصيره ومقدراته .. فتكون الصورة المبهرة للفنان هى التى تبقى وتعيش فى وجدان الجماهير على مدى الأزمان ؛ لتصنع علامة فارقة فى تاريخه وتاريخ أمته بأسرها .فإيمانى كامل وعميق بأن الحُب وحده لايكفى !وهذا ينطبق على كل أشكال وأنواع الحب الماديّ والمعنويّ ؛ فمن الضرورى أن يكون دومًا حبًا مضفورًا بالاحترام الصادق المنبثق وأكاد أقول المتفجِّر من شرايين القلوب، خاصة إذا كان هذا الحُب لفنانة مبدعة تعشق الوطن بكل جوارحها وتؤكد بسلوكياتها وإبداعاتها مايجعل محبيها وعشاق فنها الرائع يقدمون الاحترام على الحُب فى الكثير من الأحايين تقديرًا لدورها الإنسانيّ الفاعل والمؤثر فى مسيرة مجتمعها ؛ الذى يؤثر بدوره بالضرورة فى مسارات الوطن ومكانته اللائقة بتراثه على خريطة العالم . رحلت «شادية»معبودة الجماهير»-فى كل زمان وآوان - لكنها ستظل قابعة فى القلوب التى تركت بصمتها الفاعلة على أزهى عصر من عصور زمن الفن الجميل ؛ تلك البصمة التى ستظل من العلامات الفارقة لأجيال طويلة قادمة .. تصنع بكل الحُب تراث هذا الوطن العظيم جنبًا إلى جنب مع من عاصرها من الفنانين فى مصر والعالم العربيّ .وهانحن نردد معها «تحيا مصر» مدوية .