شادية.. تبقي وحدها علي جانب آخر من الأغنية ليس فقط بصوتها الرائع وقدرتها علي الغناء, وليس فقط بذكائها وحبها للفن واحترامها للجمهور.. بل بإحساسها الراقي الطاغي في الوجدان المصري, فاحترمها فنها.. وأحبها الجمهور.. وسكنت القلوب وأحييت مواسم الدفا والحنين.. وظلت هي عنوان للضحكة الحلوة والحب الباقي.. شادية... ليس مجرد اسم, لكنه صفة حملتها الطفلة فاطمة ابنة المهندس أحمد شاكر, ومع الأيام تحولت إلي كيان فني مشهور لشادية الغناء العربي, بنت مصر التي خطفت قلوب الشباب منذ الخمسينات وطوال الستينات وعندما قررت فجأة اعتزال الفن غناء وتمثيلا, بل واعتزلت الحياة العامة بشكل نهائي, بعد سنوات طويلة من الحضور القوي لدي الجماهير العربية, علي الرغم من المحاولات العديدة التي بذلها كثيرون سواء من أجل إعادتها لعالم الأضواء, أو استثمار اعتزالها لترويج مفاهيم قد تروق لها في المرحلة الجديدة, إلا أن شادية رفضت استثمار حياتها, واستمرت في مشوارها بالصورة التي أرادتها ختاما لحياة فنية عامرة. وفي الأيام الأخيرة تناثرت الأخبار حول حالتها الصحية.. وقد أكد ل الأهرام المسائي الموسيقار أحمد رمضان سكرتير عام نقابة المهن الموسيقية أن حالتها الصحية جيدة, وأنها تلقي في منزلها رعاية كاملة من أفراد أسرتها..وأنه لا صحة لوجودها بأحد المستشفيات, وأن نقابة الموسيقيين تتواصل مع أسرتها بشكل دائم. وفي ظل المناسبات الوطنية والقومية التي تمر بها البلاد في هذه الفترة نجد شادية وأعمالها الغنائية تطفو علي السطح دائما, الأهرام المسائي في ظل تكريمه لاسم الفنانة الكبيرة يرصد في هذه السطور مشوارها الفني الذي أثارت فيه البهجة والشجون. البداية... وكيف تشكل وجدانها ولدت فاطمة بالقاهرة في8 فبراير1934 وسط أسرة مصرية من الطبقة المتوسطة, حيث كان الأب أحمد كمال شاكر, يعمل وقتها مهندسا زراعيا في الأملاك الأميرية بمنطقة أنشاص في محافظة الشرقية, وكانت أمها السيدة خديجة طاهر جودت من أصول تركية, واحتلت شادية مرتبة آخر العنقود بين أشقائها الأربعة محمد وعفاف وسعاد وطاهر, وكانت فتوش طفلة تمتلئ بالحيوية والشقاوة وخفة الظل, عاشت طفولتها وصباها مع الأسرة في حي عابدين وسط القاهرة, ثم انتقلت الأسرة إلي حي شبرا, وبعده سكنت شادية علي نيل الزمالك بالقاهرة. الحب للغناء أحبت الابنة الغناء عبر الأب من دون أن يلحظ الأب ذلك وكثيرا ما كان يحلو للصغيرة الانفراد بنفسها في غرفتها وترديد الأغنيات الشهيرة للمطربة ليلي مراد وأسمهان ونجاة علي ورجاء عبده... كانت تعشق أم كلثوم لكنها كانت تراها بوضوح, ولهذا لم تتجاوز حدودها. ولم تجد في نفسها شجاعة لإظهارها ولحب والد شادية الشديد لكوكب الشرق ام كلثوم قرر أن يذهب برفقة ابنته إليها لسماع صوتها ومن هنا بدأت الصبية الصغيرة تغني للسيدة أم كلثوم, حيث بدأت في المدرسة بنشيد الجامعة وغير ذلك من الأناشيد الوطنية المقررة علي طلاب المدارس وعبر كلمات لكبار الشعراء أمثال حافظ إبراهيم وأحمد شوقي ومصطفي صادق الرافعي وعبر ألحان نجوم التربية الموسيقية والتذوق الفني في المدارس أمثال: صفر علي وعبدالحميد عبدالرحمن وأعجبت بها كوكب الشرق ونصحتها بأن تبحث عن طريقها الصحيح منذ صغرها ولا تتأخر, وأن تختار ما تحس به. تأثرت شادية أيضا بأختها الكبري المطربة عفاف شاكر, التي بدأت الغناء في الإذاعة ومثلت بعض الأدوار الصغيرة وكانت دائما تصطحب أختها معها إلي أماكن العمل ما جعلها تنمو علي حب الغناء والفن, وما أهلها لتلقي بعض الدروس الفنية في الغناء والموسيقي علي يد الملحن القدير فريد غصن والعازف محمد الناصر, كما تدربت علي الإلقاء والتعبير وتنويع الأداء الصوتي علي يد الفنان الكبير عبدالوارث عسر. محمد فوزي تأتي الفرصة الأولي لها عندما أعلنوا في استوديو مصر عن الحاجة لفتيات صغيرات من هواة التمثيل والغناء للمشاركة في عمل جديد كان يجهز له المخرج الكبير أحمد بدرخان, وخضعت شادية لاختبار الكاميرا لتقف في أول دور بطولة علي الشاشة أمام المطرب والملحن محمد فوزي في أول فيلم من إنتاجه العقل في أجازة وذلك بعد نجاحه كمطرب وممثل في عدد من الأفلام. وبعدها بدأ يتخطفها المنتجون ويسعي لها المخرجون ويلجأ إليها كبار الممثلين لحضورها الجذاب وتصبح شادية نجمة الشباك الأولي في سنوات قليلة, وكانت الأقرب لقلوب الجماهير بحيويتها وخفة دمها وتلقائيتها وابتعادها عن التقليد أو التصنع. لم تعد شادية تسير علي وتيرة واحدة في الفيلم الواحد بل راحت تتشكل وتتقلب بين الحزن والفرح والمأساة والملهاه راحت تدرك أن الغنوة لا بد وأن تكون في مكانها وألا تقطع سياق أحداث الفيلم لتغني, فأصبحت أفلامها ذات نكهة خاصة ناضجة ومتطورة ومبهرة كما في الهاربة ووداع في الفجر والتلميذة وقلوب العذاري وارحم حبي إلي أن قدمت فيلمها المرأة المجهولة الذي أحدث زلزالا في ارجاء الوطن العربي حتي وصلت للاتحاد السوفياتي فأفسحت دور العرض فيها وفي كل ولاياتها مكان لعرضه وتتبدل مكانتها إلي فنانة مكتملة النضوج. صوت مصر.. مواسم الدفا والحنين يوليو52 كانت شادية تشارك في كل احتفالات أعياد الثورة, وفي كل عام كانت تقدم أغنية جديدة تتحدث عن إنجازات وأحلام الثورة, وأحلام عبد الناصر في قيام الوحدة العربية من خلال تحديد خصال الشخصية العربية والطابع القومي من هذه الأغنيات يا وابور يا مولع وواحد+ واحد وعربي في كلامه الله أكبر ويا لولي وبلد الأحرار وشجرة الحرية مع أشهر الشعراء والملحنين مثل حسين السيد ومأمون الشناوي ومرسي جميل عزيز وفتحي قورة وصالح جودت وأيضا ألمع الملحنين مثل رياض السنباطي ومنير مراد ومحمد الموجي وبليغ حمدي. يونيو67 يودع صوت شادية الشقاوة والدلع وتغني بعيون دامعة وبصوت ملئ بالحزن من ألحان بليغ حمدي بلدي يا بلدي يا حبة عيني يا بلدي/ يا أبويا وأمي وولدي/ يا عزيز عيني وعيني بتحرس بلدي.. وتغني عن الشهداء النسمة رايحة تحكي وراجعة تاني تحكي/ عن أسمر حب سمرة/ وسافر يشتريلها فستان بلون القمرة/ وعقد لون عيونها/ من يومها راح ماجاش. يا حبيبتي يا مصر خلال سنوات حرب الاستنزاف وقبل نصر احتاج الوضع آنذاك حشدا مغايرا فغنت رائعتها التي باتت ايقونة كل المناسبات الوطنية يا حبيبتي يا مصر كلمات محمد حمزه وألحان بليغ حمدي وقالت فيها احلي البلاد يا بلادي فداكي انا والولاد يا بلادي بلادي يا حبيبتي يا مصر يا مصر يا مصر ما شفش الامل في عيون الولاد وصبايا البلد ولا شاف العمل سهران في البلاد والعزم اتولد ولا شاف النيل في احضان الشجر ولا سمع مواويل في ليالي القمر اصله معداش علي مصر يا حبيبتي يا مصر يا مصر وغنت رائعة آخري لنفس الملحن ومن كلمات عبدالرحيم منصور, يا أم الصابرين.. ع الألم عدينا.. يا مصر يا أمنا.. يا أرضنا.. يا حبنا يا عشقنا.. غالية ولا يغلي عليكي غالي برحيل الزعيم جمال عبدالناصر قدمت واحدة من أجمل الأغنيات الوطنية والتي حملت عنوان أغلي شعاع للشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل ولحنها الموسيقار رياض السنباطي, وقالت في المقطع الأخير فهو لليل مازال مازال يعطي الشروق/ وهو للركب مازال مازال يهدي الطريق/ وهو في وجه يرد الكرامة للصاغرين/ وهو في أرض لهيب ونار علي الغاصبين/ فلنسر في خطاه فهو فينا حياة الحياة, ولم تكتف بهذه القصيدة فبعد حوالي ثلاثة أشهر من وفاة عبدالناصر, وتحديدا في15 يناير في مناسبة انتهاء بناء السد العالي رسميا غنت من كلمات الشاعر محمد حمزه وألحان بليغ حمدي غالية ولا يغلي عليك غالي/ غالية يا بلادي/ غالية ويرخصلك الغالي/ لو حتي ولادي. عبرنا الهزيمة.. يامصر باعظيمة يعم الفرح الشارع المصري والعربي بعد نصر حرب أكتوبر سنوات ليعود الفرح لصوت شادية بألحان بليغ حمدي فتغني عبرنا الهزيمة يا مصر يا عظيمة. بكتب جوابي من السويس مع اعادة افتتاح المجري الملاحي لقناة السويس في يونيو1975 غنت شادية رائعة من ألحان خالد الأمير وكلمات صلاح فايز يا بلادنا يا حياتنا, كما غنت البحر الأبيض والبحر الأحمر, كما قدمت للملحن محمد علي سليمان والشاعر مصطفي الضمراني بكتب جوابي من السويس/ عشان حبيبي في العريش.. الضحكة الحلوة إنتي ولم يقتصر غناء شادية الوطني علي المناسبات فقط.. فالوطن بالنسبة لها الحب والعشق والحياة, ولا يحتاج إلي مناسبة كي تغني له, لهذا ما أن عرض عليها الشاعر الكبير مصطفي الضمراني قصيدة أقوي من الزمان من ألحان العبقري عمار الشريعي,حتي سارعت بغنائها, لتكتب بصوتها قصة حب عاطفية نادرة لوطنها مصر, وبعد اغتيال الرئيس الراحل السادات تغني مصرنعمة ربنا التي تقول فيها لو في يوم النور يغيم/ نور إيمانك شمسنا/ لو ضلام الليل يخيم/ صوت أدانك نجمنا. ادخلوها سالمين تحتفل مصر يوم الخامس والعشرين من إبريل1983 برفع العلم المصري فوق سيناء بعد استعادتها كامل فتغني شادية رائعتها مصر اليوم في عيد كلمات عبدالوهاب محمد وألحان جمال سلامه.. وقبل اعتزالها الغناء والفن عام1986 غنت في احتفالات مصر بنصر أكتوبر التي كانت تقام سنويا أكثر من أغنية منها وحياة رب المداين لزرع رملك جناين, وغنت من كلمات إبراهيم موسي وألحان بليغ حمدي ادخلوها سالمين.. ادخلوها آمنين..