خرج من موقعه وهو يصرخ ويصيح: الله أكبر، ولم يكن معه طلقة واحدة واندفع في اتجاه الدبابة الإسرائيلية فظن من فيها أنه يحمل ألغاما وسيفجرها فخرجوا منها رافعي الأيادي في استسلام. قال عنها هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي في سبعينيات القرن الماضي إنها إحدي المعارك الكبري التي شرفت بها العسكرية المصرية ووضعتها في مكانة متميزة بين جيوش العالم.. الجمعة : منذ أن عرفت طريقا لتاريخ العسكرية المصرية كنت أتمني لو قابلت الشهيد المقدم إبراهيم عبد التواب قائد الكتيبة 603 مشاة الأسطول لأسأله كيف استطاع أبطالنا البواسل أن يصمدوا كل هذه الفترة بدون إمدادات؟ وكيف جعل من الجندي المصري من معركة »كبريت« أسطورة عسكرية؟.. وجاء الرد بعد سنوات قليلة عندما نظمت إدارة الشئون المعنوية للقوات المسلحة بقيادة اللواء سمير فرج بمناسبة مرور 25 عاما علي انتصارات أكتوبر زيارة لمن تبقي من أبطال المعركة إلي «كبريت» وكنت الصحفي الوحيد ومعي الإعلامي صلاح الدين مصطفي والمصور الصحفي مكرم جاد الكريم رفقاء الأبطال في زيارتهم. لقد جاءتني فرصة في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي لم تأت لأحد قبلها أو بعدها.. قضيت يوما كاملا في موقع « كبريت» ومعي 39 من الأبطال ظلوا محاصرين 114 يوما بدون طعام أو مياه ولم يستسلموا وكانوا يبادرون بالهجوم علي القوات الإسرائيلية.. وسجلوا في التاريخ العسكري ملحمة يتحدث عنها الجميع إلي الآن..عندما وصلنا إلي قيادة الجيش الثالث الميداني كان في استقبالنا قائد الجيش اللواء أبوبكر الجندي الذي يشغل حاليا بكفاءة عالية قيادة الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء..عيون يملؤها الحب وقبلات وأحضان وسعادة عمت الجميع.. وأحاديث عامة وجانبية عن وقائع حدثت خلال حرب أكتوبر 1973.. وبعد الترحيب الحار الذي يليق بالأبطال اتخذنا طريقنا إلي البرالشرقي لقناة السويس.. عبرنا القناة ولكن هذه المرة ليس بالقوارب أو المركبات البرمائية تحت قصف العدو ولكن من نفق اللواء «أحمد حمدي» قائد المهندسين العسكريين الذي استشهد في تلك البقعة أثناء إشرافه علي عمليات تركيب كباري الاقتحام وتنظيمه عبور القوات والمعدات الثقيلة. عيون الأبطال تقتحم زجاج « الميني باص» وتكاد تلامس كل حبة رمل وهي تشاهد ما تبقي من الساتر الترابي الإسرائيلي ونحن نخترق بضعة كيلو مترات في صحراء سيناء لننعطف يسارا ثم ندخل في مدق باتجاه قناة السويس.. وتتهلل الوجوه فرحا وهي تري بقايا المعدات الإسرائيلية المحطمة والمحروقة.. ويسرح الخيال 25 عاما ليعيد ذكريات مازالت محفورة داخل الأبطال التسعة والثلاثين..والذين لم أعرف من منهم مسلم أو مسيحي إلا عندما أقمنا «صلاة الجمعة» علي أحجار النقطة التي كانت حصينة. السبت: عندما صعدت أعلي التلال الرملية والصخرية لبقايا النقطة الحصينة وجدت أن قناة السويس لا تبعد سوي كيلو مترات قليلة.. وكدت أن ألمس المباني بالبر الغربي للقناة.. فنقطة «كبريت» كانت واحدة من النقاط الحصينة في خط بارليف والذي يتكون من سلسلة تحصينات دفاعية تمتد علي طول الساحل الشرقي لقناة السويس يسبقها مانع مائي ثم ساتر رملي بارتفاع من 20 إلي 22 مترا وبزاوية ميل حادة تبلغ 45 درجة يصعب الصعود عليه. كان خط بارليف من أقوي الخطوط الدفاعية في التاريخ العسكري الحديث مع خط «ماجينو» الذي بناه الفرنسيون بعد الحرب العالمية الأولي.. يبدأ «الخط»من قناة السويس وحتي عمق 12 كيلو مترا داخل شبه جزيرة سيناء علي امتداد الضفة الشرقية للقناة.. ويتكون من نطاقين وبه تجهيزات هندسية ومرابض للدبابات والمدفعية وتحتله احتياطيات من المدرعات والمدفعية الميكانيكية.. وكان من أشهرها النقطة الحصينة في «عيون موسي » والتي أطلق المصريون علي مدافعها الضخمة «أبو جاموس» عندما كانت تضرب مدينة السويس بعد نكسة 67.. ضم خط الدفاع الإسرائيلي الذي هوي تحت أقدام أبطالنا البواسل 22 موقعا دفاعيا و26 نقطة حصينة تم بناؤها بالأسمنت المسلح والكتل الخرسانية وقضبان السكك الحديدية للوقاية ضد كل أعمال القصف.. وكانت كل نقطة تضم 26 «دشمة» للرشاشات والأسلحة المضادة للدبابات و24 ملجأ للأفراد بالإضافة إلي مرابض للدبابات والهاونات ومحاطة ب 15 نطاقا من الأسلاك الشائكة وحقول الألغام.. وبها من الطعام والذخيرة ما يجعلها تصمد ثلاثة أشهر.. وهي عبارة عن منشأة هندسية معقدة تتكون من عدة طوابق وتغوص في باطن الأرض ومساحتها تبلغ 4 آلاف متر مربع وزودت بعدد من الملاجئ والدشم التي تتحمل القصف الجوي وضرب المدفعية الثقيلة.. وكل واحدة لها عدة فتحات لأسلحة المدفعية والدبابات وتتصل ببعضها البعض عن طريق خنادق عميقة ومجهزة بما يمكنها من تحقيق الدفاع الدائري إذا ما سقط أي جزء من الأجزاء المجاورة.. ويتصل كل موقع بالمواقع الأخري سلكيا ولاسلكيا بالإضافة إلي اتصاله بالقيادات المحلية مع ربط الخطوط التليفونية بشبكة الخطوط المدنية في إسرائيل.. ويحمي كل ذلك بطاريات صواريخ الدفاع الجوي من طراز «هوك». كانت نقطة «كبريت « ذات أهمية خاصة لأنها تقع في الجزء الفاصل بين الجيشين الثاني والثالث .. وفي أضيق فاصل بين البحيرات المرة الكبري والصغري.. وتلتقي عندها جميع الطرق والمحاور الطولية والعرضية.. والمسافة بين الشاطئ الغربي والشرقي لقناة السويس لاتتعدي500 متر ويتوسط تلك المسافة جزيرة تجعل منها أنسب مكان ليقوم العدو من خلالها بالاختراق السريع وصولا إلي مدينة السويس لتطويق الجيش الثالث. الاثنين : في يناير 1972 تم تشكيل اللواء 130 مشاة الأسطول لإيجاد قوة مشاة ميكانيكية لديها القدرة علي التحرك بمركباتها علي الأرض وفي المسطحات المائية المحدودة كالبحيرات المرة لمفاجأة العدو في عمق دفاعاته وتعطيل تقدم الاحتياطي التعبوي الإسرائيلي وشغل مدرعاته عما يحدث علي خط القناة حتي يتم إنشاء رؤوس الكباري وعبور مدرعاتنا..وتم اختيار ضباطه وأفراده من رجال الصاعقة المتميزين.. وتقسيمه إلي كتيبتين إحداهما كانت الكتيبة 603 بقيادة المقدم /إبراهيم عبد التواب.. وفي أواخر سبتمبر 1973 تحرك اللواء إلي الجبهة.. وكلفت الكتيبة 603 بعبور البحيرات المرة الصغري يوم 6 أكتوبر والانطلاق إلي ممر «متلا» والاستيلاء علي مدخله والثبات به لقطع طريق الاحتياطي التعبوي للعدو. بعد عبور أبطال الكتيبة لقناة السويس وفي مساء السادس من أكتوبر وصلت معلومات للقيادة العامة للقوات المسلحة بأن العدو بدأ في تجميع قواته نحو «نقطة كبريت» للاستناد إليها في القيام بعملية اختراق عميق لقواتنا.. فكلفت الكتيبة 603 باقتحام النقطة والاستيلاء عليها..ووضع الشهيد إبراهيم عبدالتواب قائد الكتيبة خطة الهجوم ووزع المهام علي أفرادها..ولكن كان يعوق حركة الصواريخ المضادة للدبابات أعمدة تليفون سكة حديد بمواجهة بلغت كيلو ونصف الكيلو متر فقام أحد الأبطال وكان برتبة ملازم اول بأسلحة صغيرة وعبوات ناسفة وبعدد قليل من الجنود بمهمة انتحارية وتمكن من تفجير15 عامودا فانكشفت نقطة ملاحظة للعدو كانت توجه قذائف دباباتها إلينا فاقتحمها الأبطال وقتلوا أحد أفرادها وفر الباقون خوفا واستولينا علي رشاشين وبعض الوثائق والصور الجوية. في مساء يوم8 أكتوبر قرر البطل إبراهيم عبد التواب تنفيذ العملية وكانت التقديرات أن الموقع يحتوي علي فصيلة مشاة ميكانيكي مدعمة بفصيلة دبابات.. وعلي مسافة3 كيلومترات منها توجد قوة احتياطي للعدو تقدر بسرية دبابات وفصيلة مشاة ميكانيكي. الثلاثاء: نجح الأبطال في السيطرة علي النقطة الحصينة وكالعادة فر الجنود والضباط الإسرائيليون ووزع قائد الكتيبة القوات علي المواقع المختلفة للدفاع عنها..وكان العدو علي مرمي البصر يعيد تجميع قواته.. وخلال ثلاثة أيام بعد استيلاء الأبطال علي الموقع الحصين كانت تحركات العدو تشير إلي استعداده للهجوم لاستعادة النقطة.. ورأي البطل إبراهيم عبد التواب قائد الكتيبة ضرورة القيام بخطة مضادة لإفشال استعدادات العدو بتنفيذ غارات ليلية علي قواته المتجمعة أمام النقطة وإحداث أكبر خسائر بها.. وكان الأبطال يتسابقون للخروج في هذه الدوريات الانتحارية والتي كانت تتكون من ضابط وأربعة أفراد فقط..وأدت هذه الغارات إلي إشاعة الذعر بين صفوف قوات العدو وتكبيدهم خسائر كبيرة. لم يكن العدو يقف صامتا فكان سيناريو اليوم يبدأ بطلعات جوية من الطيران المعادي في قصف جوي مكثف يلقي خلاله جميع أنواع القذائف ليفرش الأرض بنيرانه المسعورة من دانات زنة ألف وألفي رطل وقنابل عنقودية وهي عبارة عن مستودع كبير يتم إلقاؤه من الطائرة فتخرج منه قنابل صغيرة تنتشر علي الأرض لتعمل كألغام موقوتة تنفجر عند ملامستها للجسم.. ثم يأتي بعد ذلك هجوم المدفعية التي تمطر النقطة الحصينة بكل أنواع الأعيرة التي أحالت تربة الموقع الصفراء إلي اللون الأسود، وكان الدخان يتصاعد طوال اليوم.. وقبل أن تغيب الشمس تبدأ قوات العدو المدرعة في الهجوم من جميع الاتجاهات، ثم يحاولون التقدم للاستيلاء علي النقطة ظنا أن كل ما فيها قد دمر.. ولكن المفاجأة أن أرض الموت تنشق عن أبطالها وتنهمر نيرانهم عليهم فتندلع الحرائق في مركباتهم ومدرعاتهم ويفرون هربا..وفي إحدي المرات تقدمت دبابة إسرائيلية لمسافة لاتزيد علي عدة أمتار وكان في مواجهتها اثنان من الأبطال استشهد أحدهما ونفدت الذخيرة من الآخر .. فخرج من موقعه وهو يصرخ ويصيح: الله أكبر، ولم يكن معه طلقة واحدة واندفع في اتجاه الدبابة فظن من فيها أنه يحمل ألغاما وسيفجرها فخرجوا منها رافعي الأيادي في استسلام.. وعندما يئس العدو من استعادة نقطة كبريت الحصينة لجأ إلي حصارهم من كل الجهات. الأربعاء: ويستكمل الأبطال حديثهم معي ونحن نتجول بين بقايا الحصون قائلين : إن الله كان معنا فبمجرد وصولنا إلي الشاطئ الشرقي للقناة بدأت نيران العدو تتساقط علينا.. وشاهدنا فوقنا أسرابا من الحمام الأبيض تطير في إعجاز ليس له تفسير.. وبعد استيلائنا علي النقطة خرج أحد الضباط يفتح ثغرة في حقل الألغام لتخرج منها دوريات الإغارة.. وكان العدو في هذه الأثناء يعيد تجميع قواته وأدرك قائد الكتيبة أن العدو يستعد للهجوم وخشي أن يستغل الثغرة فأمر الضابط بسرعة إغلاقها ولأن الوقت لم يسعفه حيث بدأ هجوم العدو فما كان منه إلا أن بعثر الألغام في كل اتجاه دون تقيد بنظام الرص وانسحب مسرعا، وبدأت دبابات العدو في الهجوم وتقدمت في حقل الألغام وفق خريطتهم لتفاديها و توالت الانفجارات فقد دخلوا في الحقل المبعثر.. وانسحب العدو بعد ان ترك اكثر من خمس دبابات مدمرة ومحترقة..ويستكمل البطل حديثه قائلا : كنا نطبخ البسكويت مع الخضار..وأكلنا الاخشاب.. وصنعنا محطة صغيرة لتحلية مياه القناة استخدمنا فيها تنك لدبابة محطمة وضعنا فيه المياه..وأشعلنا اسفل منها قطع الخشب التي حصلنا عليها من فلنكات السكة الحديد ليمر البخار في مواسير ليتم تكثيفه ليسقط في أحد الجراكن ويوزع علي الأبطال..وسوف أقول لك شيئا تتعجب له.. المقدم البطل ابراهيم عبدالتواب قائد الكتيبة طلب قبل العمليات علما لمصر له شخصيا خلاف العلم الذي تسلمه لرفعه علي البر الشرقي.. وبعد الاستيلاء علي الموقع ورفع علم مصر عليه قال البطل إن العلم الآخر معي لأني سوف أستشهد وألف فيه وأدفن هنا.. وتتحقق أمنية المقدم البطل ليستشهد يوم 14 يناير 1974 عندما اطلقت قوات العدو بعض قذائفها ليستشهد القائد الأسطورة كما وصفه أعداؤه ويدفن القائد في نفس المكان الذي أشار إليه.. وقال عنه قائد الموقع الإسرائيلي لقد كان قائدا أسطوريا متسائلا: كيف تمكن خلال شهر نوفمبر من إدخال أفراد الكوماندوز المصريين الذين ظهروا في النقطة الحصينة بلا شعور منا مما دفعنا لرفع درجة الاستعداد لخمسة ايام تحسبا لعملية انتحارية منكم.. والحقيقة أنهم كانوا جنود الكتيبة وأمرهم القائد إبراهيم عبدالتواب بحلق شعر رؤوسهم فاعتقد العدو أنهم دعم لقواته. إذا تحدثت عن تفاصيل بطولات رجال الكتيبة 603 التي سمعتها أثناء زيارتي لموقع كبريت لن تكفيني يوميات واحدة أو مئات منها فالشهيد النقيب سمير السيد وهدان الذي لم يمض علي زواجه سوي شهرين وترك زوجته وفي أحشائها جنين يتكون أغار علي مواقع العدو وأصاب الكثير من دباباتهم وكان يثير الرعب في قلوبهم، وأصيب بشظايا صاروخ في فخذه وعولج وعاد ليواصل قتاله فاستشهد. والشهيد ملازم أول عبدالرازق عبدالمقصود أول دفعته وفرقته في الصاعقة الراقية أصيب في الفخذ والبطن ولقي ربه بعد أسبوع من الإصابة.. هذه بعض من انجازات أبطالنا في ملحمة كبريت..وهذه ليست فقط روح وعزيمة هؤلاء الأبطال بل هي روح كل مقاتل في قواتنا في اكتوبر 73 تتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل يتحطم علي صخرتها كل عدو وغاصب وإرهابي.