زرته في مرضه الأخير أثناء الثورة المصرية العظيمة، وكان ذهنه متألقًا، وقلت له: إننا بحاجة إليك في هذه الظروف الدقيقة. ابتسم أ. د. طه جابر العلواني، وحملني رسالة إلي فضيلة المرشد: تدبروا القرآن، واعملوا به، وتمسكوا بوحدتكم، وحافظوا علي صلتكم بالله عز وجل. كان هذا ما انتظره من رجل وهب نفسه للفكر الإسلامي، لأن الفكر الذي يظنه البعض مرتبطًا بالفلسفة والتنظير والتجديد والاجتهاد دون عون من الله يكون أول ما يجني عليه، كما قال الشاعر: إذا لم يكن عون من الله للفتي فأول ما يجني عليه اجتهاده أعرفه منذ سنوات طويلة، تعلمت منه، واستفدت من خبرته العملية، وقرأت بعض كتبه ودراساته مع أصدقائه ورفاقه الذين أسسوا المعهد العالمي للفكر الإسلامي، بعد خلاف لهم مع حركة الإخوان المسلمين. أر سل لي بعد هذه الزيارة بحثًا قيمًا عنوانه: »الإسلاميون بين الدعوة والدولة« ولقد سبق لي كتابة مقالات عديدة، و قدمت أوراق عمل تتعلق بضرورة الاستعداد لمهمة النهوض بالأمة، والبناء السياسي والإداري لأمة افتقدت القدرة علي التواصل مع تاريخها، وكذلك عجزت عن الاستفادة من التجارب الحضارية حولها، ولذلك اهتممت بالبحث وقرأته بإمعان. الدعوة رَبَّانية، إنسانية، عامة، شاملة.. الدولة أخص في حقيقتها ومقاصدها وأهدافها واهتماماتها. ويمكن للدولة أن تتبني قيم الدعوة وأهدافها دون أن تمزج بين الأمرين، أو ترفع الفروق بينهما. وهنا يلفت انتباهنا الفصل الوظيفي بين الجماعة الدعوية والحزب السياسي، وهذا يوضح إدراك القائمين علي الحركة الإسلامية للفرق الرئيسي بين المهمتين مع اتفاق الهدف الكلي، وهو إعلاء كلمة الله. لرجال الدعوة أن يلتزموا بمتطلبات الدعوة وسقوفها المعرفية مهما كانت عالية، أمَّا رجال الدولة فإنهم لا يستطيعون تجاوز الطاقة الواقعية للمجتمع والدولة؛ إلي السقف الأعلي مع وجود طاقة بشرية محدودة، ولنا في مثال سورة الأنفال في القتال العبرة، حيث خفف الله عن المقاتلين. وعلي الداعية أن يتفهم مواقف السياسي، والعوامل التي تحكمه، والعكس صحيح. إذا نجحت هذه المعادلة، فإن الفريقين سيسيران في خطين متوازيين إلي الهدف المشترك، والمقاصد العليا المشتركة، دون أن يُحرج أي منهما الآخر، ودون أن يقعا في حالة تصادم. الهدف المشترك هو الذي يحكم العلاقة بين المؤسستين، والتنسيق المشترك هو الذي يحقق التناغم والدعم. لسنا في حاجة إلي أن نتبرأ من تاريخنا رغم ما فيه من عثرات، ولعل الانبهار الشديد بالديمقراطية الغربية يعمي الأبصار عن عيوبها الخطيرة. إن التطبيقات الغربية للديمقراطية تستند إلي عدة اعتبارات، بعضها تاريخي، والآخر قيمي، وهناك ثقافات مختلفة من بلد إلي آخر. هناك مذاهب اجتماعية، وسياسية، واقتصادية في الغرب تختلف في تطبيقاتها من بلد إلي آخر. أمريكا دولة اتحادية رئاسية، وكذلك ألمانيا، بينما بريطانيا أم الديمقراطيات نظامها برلماني، وفرنسا اختارت نظامًا مختلطًا. عندما بدأت التطبيقات الديمقراطية خارج أوروبا رأينا نماذج برازيلية، وهندية، وجنوب أفريقية. نحن نستطيع أن نستلهم من ثقافتنا وتاريخنا وتقاليدنا نظامًا ديمقراطيًا إسلاميًا حضاريًا، يتفق تمامًا مع القيم التي تقوم عليها الديمقراطية، كاحترام التعددية بكل أنواعها، واحترام دولة القانون، واستقلال القضاء، وتداول السلطة عبر الانتخابات الدورية الحرة، مع احترام كامل للمساواة بين المواطنين دون تمييز لأي سبب كان. ينبه د. طه جابر إلي ضرورة عدم الخوض في جدل عقيم حول مخاوف الليبراليين، أو الأقليات الدينية ذ رغم تحفظي علي هذا التعبير حول الدولة الدينية، والمواطنة، والذمة، وإشكالية الهوية، وعدم إدخال القضايا التي تتعلق بالمفاهيم في أدوات الصراع السياسي. يحذر الدكتور إلي خطورة استعارة المفاهيم دون وعي بالنسق الحضاري الذي نشأت فيه تلك المفاهيم، حيث أن الجذور والأصول والقواعد شحنت تلك المفاهيم بجملة من الأفكار والتحيزات التي تؤدي في النهاية إلي آثار عملية في الحياة العامة. لذلك لابد من وضع ضوابط ومعايير عند استعارة هذه المفاهيم، لئلا تنهدم السدود بين الثوابت والمتغيرات، ومن أخطر تلك المفاهيم ربط المواطن بالعلمانية بالديمقراطية. ظهرت كلمة المواطنة في أعقاب الثورة الفرنسية، وصاحبها نزعة علمانية دنيوية كمنهاج للحياة، يقابل الالتزام بالدين، ويتقاطع معه أحيانًا، أو يحجمه أحيانًا أخري. كان أحد الأسباب هو التمييز الشديد - في فرنسا بالذات- ضد أصحاب المذاهب المختلفة في إطار الدين المسيحي، بينما حرص الإسلام علي حماية الخصوصيات الدينية، واحترام الاختلافات المذهبية، ومساعدة الذين لم يقتنعوا بعد بالإسلام علي حماية معتقداتهم وخصوصياتهم، إضافة إلي مظلة الحماية التي يسبغها النظام العام الإسلامي للمال والعرض والجسد والنفس، وبذلك يأخذ الفرد حقه وحريته الكاملة للبقاء علي ما هو عليه من دين؛ أو التحول إلي الإسلام. والأصل الذي يحكم ذلك هو الآية »لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ« (البقرة: 256) وقوله: أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّي يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (يونس: 99) والآية »فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن ومَن شَاءَ فَلْيَكْفُر« (الكهف:29) وقوله »لَكُمْ دِينُكُمْ ولِيَ دِينِ« (الكافرون:6) الإسلام يحافظ علي الخصوصيات الدينية، بينما العلمانية تريد إذابة كل الخصوصيات لصالح فلسفتها الدنيوية، وتنتهي عادة لصالح الأكثرية المتصوَّرة، التي سرعان ما تنتقص من حقوق الأقليات. لا ارتباط بين فكرة الديمقراطية والمواطنة، وبين الفكرة العلمانية الدنيوية التي تُقْصِي الدين أو تريد تحجيمه.