هنا قطعة من روح الإسكندرية.. شريط من ذكريات طفولة والأيام الذهبية التي تشكلت علي شواطئ أبو قير التاريخية، حيث دارت قديمًا المعارك الحربية، وارتبط اسمها بأساطير ألف ليلة وليلة، وتفد إلي شواطئها باستمرار الرحلات من القاهرة والمحافظات وأقصي الأرياف فهو وبلا منافس صاحب لقب المصيف الشعبي للعائلات، وخاصة »البحر الميت». البحر يحيط بالشوارع من مختلف الجهات، وطوابير الناس لا تتوقف عن الحركة في الحواري الضيقة الكثيرة التي تمتلئ بمحال الأسماك القريبة من حلقة السمك الشهيرة، فالأسماك الطازجة المشوية هي أشهر الوجبات خاصة علي الشاطئ، فهو وبحق يختلف تماما عن شواطئ الكورنيش مثل ميامي والمنتزه وسيدي بشر وبالطبع الساحل الشمالي. أول ما يلفت الأنظار هو انتشار الأحصنة وعربات الكارو فهي تعتبر الوسيلة شبه الأساسية للمصطافين، وتحمل العشرات من الشاطئ إلي بيوت أبو قير المصيفية، ويشوه كل ذلك الجمال بالشواطئ تلك الرائحة الكريهة والمركزة التي تقتحم الأنوف قادمة من مخلفات حلقة الأسماك واسطبل الخيول التي تنتشر حولها القمامة ويلهو فيها الدجاج الذي تعود الأهالي علي تربيته! وبمجرد دخولك الشاطئ ستشعر وكأنك عدت بالزمان للوراء وتعيش مشاهد أحد الأفلام القديمة، فقد تم تقسيمه بالأخشاب وقطع القماش أو القش والبوص إلي ما يشبه الغرف، مراعاة لخصوصية عشاق ذلك الشاطئ من عائلات أهل الريف، أما أفضل ما في الشاطئ أنه مفتوح وممتد بدون فواصل أو أحجار، ويمكنك فيه ممارسة رياضة المشي الممتعة علي الرمال والتي افتقدها أهل الإسكندرية بعد أن تحول معظم الشاطئ إلي كتل خرسانية، أو تم تقسيمه إلي شواطئ خاصة شعارها »ممنوع الدخول»، فيما تظل الميزة الأساسية لهذه الشواطئ أنها شبه مجانية و»ملك الجميع»، فمسئولو الشواطئ لا يدفعون رسوما للمحافظة، وبالتالي لا يتحصلون علي رسوم دخول، ويتم فقط سداد ثمن إيجار الكراسي والشماسي إن أرادوا وبعد »الفصال». وفي وسط الزحام.. في منتصف الشاطئ تقريبًا، جلست عائلة فاطمة أبو بكر قادمة من طنطا للتمتع بشط أبي قير للمرة الأولي، وتقول لنا :» أول مرة نيجي هنا بعد غلاء الأسعار.. الدنيا هنا رخيصة وحنكررها كل سنة..أجرنا شقة للعيلة وبننزل البحر كل يوم.. والشط أهدأ والمعاملة أحسن.. وبنجيب أكلنا وشربنا ونستمتع..حتي لو المياه مش حلوة أوي..لكن المهم العيال مبسوطة وشافت البحر». ومن قدامي المسئولين عن الشاطئ عم »سيد»، فهو يعمل فيه علي حد تعبيره » من زمان قوي» وبالوراثة، وكما يقول: »بنحب نراعي الناس والدخول هنا من غير فلوس لاننا اصلا مدفعناش فلوس إيجار، ومحدش أصلا معاه حاجة، فبنفرش كراسينا ونقدم الطلبات والناس بتراضينا»، وينهي كلامه بتنهيدة طويلة ويضيف :» الوضع اختلف عن أيام زمان، كانت الدنيا جميلة والشواطئ زحمة رغم أن البحر كان ملوثا بالصرف، لكن الناس مبتمشيش وبتبات علي الصف الأول ليلة الخميس.. والفلوس كانت كثير، لكن الآن الوضع فعلا صعب»، ويشير إلي أن الشاطئ هنا يحتاج لاهتمام، فلا يوجد فيه إسعاف ولا حاجز أمواج، وتصعد مياه البحر أحيانًا في المد حتي الأسفلت وتختفي الرمال، ولذلك بنينا شوال رمال علي حدوده حتي لا نغرق»! ننتقل إلي شاطئ آخر مجاني أيضا ومشهور باسم »البحر الميت »، فهو خالٍ تقريبا من الأمواج، والإقبال عليه كبير، ويقول خالد معبد مسئول أحد الشواطئ: » الشط هنا أمان، ومعروف أننا شط عائلات وبأبسط الأسعار وهادئ جدا بعيدًا عن زحمة المدينة.. والبحر فيه لكل الناس».