وقال صديقنا العائد بعد غياب: »نحن للأسف نسير في اتجاهين متضادين.. حيث لا نعمل ولا ننتج بالقدر الكافي،..، لكننا تفرغنا لزيادة السكان». في انفعال شديد وبعيداً عن أي محاولة لضبط الاداء أو اختيار الالفاظ، قال الصديق الذي هبط علي مجلسنا فجأة ودون سابق انذار، كما عودنا دائماً وطبقاً لما دأب عليه وعمل به طوال عمر صداقتنا الممتدة لسنوات وسنوات،..، »في يقيني اننا كأفراد وحكومة ودولة لا تمتلك الشجاعة الكافية للاعتراف، بأننا نفتقد التقدير الصحيح والموضوعي للأهمية البالغة لقضية الزيادة السكانية، وتأثيرها المؤكد علي مستقبل الحياة علي ارضنا وامكانية تطورها ونموها بالقدر الذي نريده ونسعي إليه، وبالسرعة التي يجب ان يتم بها هذا التطور وذلك النمو». وقبل أن نشرع حتي في تداول وبحث ما طرحه علينا من افكار، استطرد الصديق قائلا: »بالطبع تعرفون اننا حتي لم نحاول بالقدر الكافي مواجهة الاخطار الكامنة في هذه القضة، والتي يمكن ان تكون بالفعل محملة باخطار كارثية بالنسبة لما نبذله من جهد للنهوض والخلاص من الظروف الاقتصادية الصعبة التي نمر بها، ثم التقدم للأمام في بناء الدولة الحديثة والقوية التي نسعي إليها ونطمح إلي تحقيقها بأسرع وقت ممكن». وصمت صديقنا برهة وجيزة أخذ خلالها يتأملنا بعينيه، ويدقق في وجوهنا بحثاً عن ردود فعل للقذائف المباغتة التي اطلقها علينا قبل ان يعطينا حتي فرصة الترحيب به، أو السؤال عما غيبه عنا طوال الشهور والاسابيع الماضية، وقبل ان يبين لنا الاسباب التي حالت دون مشاركته لنا وحضوره بيننا، في اللقاء الذي اتفقنا علي ان يكون له صفة الدورية مرة علي الاقل كل شهر، وهو ما حافظنا عليه تقريباً طوال السنوات الماضية رغم تعدد المشاغل وكثرة الاعياء لكل منا. الفضفضة والبوح واحسب أني قد فاجأتكم - وحديثي هنا موجه للقراء الاعزاء - بما فاجأنا به صديقنا القادم بعد طول غياب،..، ولذا أقول لكم إننا مجموعة من الاصدقاء ربطت بيننا سنوات الدراسة وتوافق النزعات، وايضاً بعض المشارب المشتركة وحب القراءة ومتابعة الاهتمام بالشأن العام، وتبادل الفكر والرأي فيما هو مطروح علي الساحة من أحداث ومستجدات، وكذلك ايضاً حب الفضفضة كعادة كثير من المصريين إن لم يكن جميعهم، دون استثناء لطبقة بعينها ودون اعتبار ايضاً لبعض التفاوت أو الاختلاف الثقافي أو المادي. وقد حافظنا ومازلنا علي ما اتفقنا عليه من دورية اللقاء مرة علي الاقل في مطلع كل شهر كلما امكن ذلك،..، ولكن صديقنا هذا تخلف عن مجلسنا طوال الشهور الثلاثة الماضية، ثم اذا به يعود هذا اليوم ليقذف في وجوهنا بصحوته المتأخرة والمفاجئة بخصوص الأهمية البالغة لقضية الزيادة السكانية، وما تحمله في طياتها من اخطار تهدد تحقيقنا ومسعانا للدولة الحديثة والقوية. ولمزيد من التوضيح اصارحكم القول بأننا في العادة كنا ومازلنا نتشاور بخصوص الموضوع أو القضية التي ستكون محل نقاشنا خلال كل لقاء،.. وعادة تكون واحدة من ابرز القضايا الطافية علي سطح الاحداث،..، واصارحكم ايضاً بأننا لم نكن دائماً أو في الغالب متمسكين بالالتزام بذلك، بل كنا ومازلنا نتيح لانفسنا أو لكل منا الفرصة ليطرح ما يعن له من أمور يري انها اكثر الحاحاً أو أكثر أهمية مما اتفقنا عليه،..، كما كنا نتيح لانفسنا أو للبعض منا حرية البوح بما يراه من آراء أو رؤي او حتي الانفعالات والمشاعر تجاه الاحداث والمواقف والاشخاص، في اطار البوح المسموح به في العلاقات الانسانية العميقة، التي تربط بين الاصدقاء القدامي، الذين تعودوا علي الفضفضة لبعضهم البعض عما يثقل عليهم من هموم الحياة، أو عما يشغلهم من قضاياها ومشاكلها، بحثا عمن يخفف حدتها ويزيل بعض احتقانها. جولة أوروبية المهم.. كان صديقنا يتفرس في وجوهنا بحثا عن مردود لما ألقاه في وجوهنا من افكار وما قذفنا به من رؤي بخصوص غفلتنا نحن كأفراد وكذلك الحكومة وايضاً الدولة كلها عن الخطر الكامن في قضية أو كارثة الزيادة السكانية. وكنا نحن بعد المفاجأة ننظر الي بعضنا البعض بحثا عن واحد منا يتولي الحديث او يتبرع بأن يكون أول المعقبين علي ما قاله صديقنا . ويبدو أن صاحبنا العائد بعد غياب قد أدرك بعد لحظات من التفرس في وجوهنا، ما يعتمل في نفوسنا جميعاً من اندهاش وما يدور داخلنا من تساؤلات وما نحتاج اليه من ايضاح وتفسير،...، فإذا به يقول: »أعرف انكم جميعاً تتساءلون عن الأسباب وراء ما اقوله الان، وفي ذلك اقول لكم إنني عائد منذ أيام قلائل من جولة عمل طالت في الخارج، وقمت خلالها بزيارة عدة دول أوروبية وقد لفت انتباهي خلال هذه الزيارات أمران مهمان رأيتهما في كل هذه البلاد دون استثناء تقريبا،..، أولهما التقديس الكامل لقيمة العمل والانتاج، وثانيهما الثبات النسبي في تعداد السكان،..، بل إذا ما أردنا الواقع القائم بالفعل لقلنا ان هناك تناقصا طفيفا في تعداد السكان في هذه البلاد خلال السنوات الأخيرة»،..، وصمت صاحبنا مرة أخري وراح يتأملنا من جديد في محاولة واضحة من جانبه للبحث عن ردود الفعل ومظاهر واشارات الاهتمام بما يقول. اتجاهان متضادان ولم يمهلنا صاحبنا كثيراً بل استطرد موضحاً: وبالطبع أنتم علي دراية تامة بالمستوي المعيشي المرتفع الذي ينعم به المواطنون في هذه الدول، في ظل التقدم الاقتصادي الذي وصلوا إليه والانتاج الوفير والجيد الذي يحققونه، وقدرتهم علي التصدير للأسواق العربية والافريقية وغيرها، بفضل تقديسهم للعمل وإعلاء قيمته، ثم ايضاً بوفرة المنتج وجودته وهو ما اتاح لهم هذا المستوي الراقي من المعيشة،..، وبالطبع انتم علي دراية تامة ايضاً بأن مستوانا المعيشي يتضاءل كثيراً عما هو موجود بهذه الدول، وليس عيبا من وجهة نظري أن نكون في مستوي يقل عن مستواهم المعيشي، شريطة أن نسعي بكل الجدية لرفع مستوانا وزيادة عملنا وزيادة انتاجنا وتحسين جودته،..، ولكن العيب اننا لا نعمل بالقدر الكافي ولا بالجدية والأمانة والإخلاص اللازم لتغيير واقعنا وتحسين مستوي معيشتنا، والعيب كل العيب اننا لا نقدس العمل ولا نعطيه قدره وقيمته،...، هذه واحدة». ولم يتوقف صاحبنا عن اندفاعه فيما يقول بل لقد واصل حديثه بنفس الحماسة والاندفاع: »أما الثانية يا اصدقائي فهي اننا لم نتوقف عن اهدار قيمة العمل فقط، بل زدنا عليه واضفنا اليه تلك الزيادة السكانية الهائلة التي نزيدها كل عام، وكأننا تركنا العمل الجاد وتفرغنا لزيادة السكان، أي اننا نسير في اتجاهين متضادين في ذات الوقت، حيث اننا لا نعمل بالقدر الكافي وبالتالي فإننا لا ننتج ما يكفي لحاجتنا ويسد استهلاكنا،..، وأيضاً نبذل كل جهدنا في زيادة السكان، وهو ما يعني زيادة الافواه والبطون الجائعة المحتاجة الي الطعام، وزيادة الاعداد المحتاجة إلي المدارس والجامعات والتعليم بصفة عامة، والملايين المحتاجة للرعاية الصحية، والاسكان والطرق والمواصلات والمرافق والخدمات، و..و وغيرها،..، والمؤلم في كل هذا اننا لا نحس ولا ندرك بخطورة ما نقوم به وما نحن مندفعون نحوه». قضية خطيرة ومرة أخري توقف صديقنا العائد بعد غيبة لم تطل سوي ثلاثة أشهر عن الحديث الذي كان مستطرداً فيه، وراح ينظر إلينا علي أمل ان يري ما ينتظره من انفعال او تحمس لما قال، أو حتي امتعاض أو رفض لما يقوله،..، ولكنه لم يعثر علي شيء يرضيه أو يطيب خاطره،..، لذا رأيناه وقد ارتسمت علي وجهه علامات خيبة الأمل والاحباط يقول »للأسف هذا ما توقعته تماماً،..، انتم مثل غيركم لا تحسون بالمسألة، ولا تدركون أنها قضية هامة، بل هي قضية بالغة الخطورة بالفعل وانتم ككل الناس لا تشعرون بذلك». ثم صمت برهة قصيرة متأملاً ومدققا في وجوهنا ليتبين تأثير كلماته وشدة وقعها علينا،..، والحقيقة لقد كنا، أو أنا علي الاقل، في حيرة من أمرنا، حيث انه كان مندفعاً في الحديث ولم يترك لنا فرصة للرد أو الحوار، ثم ان ما كان يقوله ويتحدث به ويطرحه كشيء جديد ومفاجئ كان ولا يزال بالنسبة لنا غير ذلك، فهي بالفعل قضية قديمة متجددة، وربما نكون قد فقدنا الاحساس بأهميتها وخطورتها من طول معايشتها لنا ومعايشتنا لها، أي أننا اعتدنا عليها ولم تعد تشغلنا، ولكن ذلك لا يعني أنها ليست هامة أو أنها ليست خطيرة،..، وكنت علي وشك أن أقول له ذلك بالفعل:،..، ولكن صديقنا لم يترك لي ولا لغيري الفرصة، فقد بادرنا بالقول »أنتم بالقطع تعرفون ان عدد السكان في بلدنا مصر الان قد اصبح بالفعل علي مشارف المائة مليون نسمة وذلك طبقاً لكل المصادر الرسمية،..، ولكنكم قد لا تعرفون أن هذا التعداد يزداد سنوياً الان بمعدل يصل الي »2.5٪» أي اننا نزداد تقريباً مليونين ونصف المليون نسمة كل عام،..، هذا شيء خطير جداً، لأنه يعني في الواقع إذا ما استمر علي ذلك، ان تكون هناك زيادة متوقعة في عدد السكان بمصر المحروسة خلال العشر سنوات القادمة فقط تصل الي أكثر من خمسة وعشرين مليون انسان أي نصبح 125 مليون نسمة». 150 مليون نسمة واستطرد صديقنا في حديثه قائلاً وهو يتأملنا في دهشة بالغة: »أراكم غير مندهشين ولا مصدومين مما اقول، وذلك شيء محبط،..، ولكن ماذا افعل لكم حتي تحسوا بالخطر الكامن وراء ذلك،..، لو أنكم تأملتم هذا الرقم الخطير وفكرتم فيه، لوجدتم أنه يزيد علي ربع عدد السكان الحالي،..، ولكم ان تتخيلوا لو أننا اضفنا عشر سنوات أخري بنفس نسبة الزيادة السنوية الحالية، فإن الرقم يصل بالقطع إلي ما يزيد علي الخمسين مليوناً من المصريين، الاطفال والصبية والشباب،..، و ما يعني اضافة اجمالية توازي تعداد عدد كبير من الدول متوسطة الحجم السكاني، بحيث يمكن ان تكون عشر دول تضم كل منها خمسة ملايين نسمة، أو خمس دول تضم كل منها عشرة ملايين نسمة، ولا فرق بين ذلك وذاك، حيث ان كلا منهما يعني شيئاً واحداً ومؤكداً وهو أن هؤلاء الملايين الخمسين من الأطفال والصبية والشباب، الذين سيضافون الي ابناء مصر خلال العشرين عاما القادمة، لو سار الحال علي ما هو عليه الآن، يحتاجون يا اصدقائي الكرام إلي اشياء كثيرة واحتياجات كثيرة في جميع مناحي الحياة،...، سواء في المأكل او المشرب، او الصحة والخدمات والمرافق، والتعليم والطرق والمساكن، وغيرها وغيرها». مهمة صعبة وأمام هذه الارقام التي قذفها صديقنا في وجوهنا لم نجد مجالاً للصمت أو الانتظار، بل بدأنا جميعاً في التململ والشروع في ابداء الرأي والحوار معه تأييداً أو اختلافاً،..، ولكنه للاسف لم يعطنا أي فرصة، فقد تجاهل ما كان بادياً علي وجوهنا من التأهب للحوار، واستطرد بنفس الحماس قائلاً: »كل ما ارجوه منكم ان تعيدوا معي النظر في هذه الارقام، ولو فعلتم ذلك ستجدون اننا أمام زيادة سكانية سنوية تصل الي مليونين ونصف المليون، أي اننا سنصل بعد عشرين عاماً فقط وربما قبل ذلك إلي ما يزيد علي المائة وخمسين مليوناً من السكان، وهو الرقم المحتمل للاسف في عام 2035».. وهو رقم هائل يحتاج الي ادراك واع وحكيم لمعناه ومتطلباته، نظراً لما يفرضه ذلك من جهد كبير وعمل مكثف للوفاء بالاحتياجات الاساسية اللازمة لتوفير الحياة الكريمة لهؤلاء البشر جميعاً،..، وهذه مهمة لا نقول عنها إنها مستحيلة أو غير ممكنة، بل نقول انها صعبة وشاقة جداً». ولم يمهلنا صديقنا ولو ثانية واحدة للتفكير فيما يقوله بل واصل قائلاً: »إذا اردتم الصراحة، وهي واجبة وضرورية، فلابد ان تدركوا ان هذه الزيادة السنوية في عدد السكان تمثل مشكلة حقيقية بالنسبة لنا إذا ما ظلت علي ما هي عليه من انفلات وعشوائية، ولم نعمل كأفراد وكحكومة وشعب وكدولة علي السيطرة عليها أو ترشيدها علي اقل تقدير، لأنها بكل صراحة ستصبح عقبة جسيمة في طريق النمو الاقتصادي الذي نسعي إليه، ونتحول الي غول يلتهم كل محاولة للاصلاح الاقتصادي الذي نتحدث عنه ونسعي للوصول اليه، وستؤدي لإحباط كل المحاولات الجادة للخروج من الازمة الاقتصادية، أو علي الاقل سوف تؤجل هذا الخروج وتبطئ من خطواته، لأنها ستأكل كل الخطوات الإيجابية،..، وهذا هو الخطر الذي يجب ان نتنبه له ونعمل له ألف حساب وحساب. عين الحقيقة وواصل صديقنا العائد بعد غيبة قائلاً: »ما يجب ان تعلموه بوضوح هو أن غول الزيادة السكانية، الذي تركناه طوال السنوات الماضية وحتي الان ينطلق بصورة عشوائية دون سيطرة أو تنظيم، سوف يضيف الينا ملايين الاطفال كل عام، وهؤلاء يحتاجون الي عشرات الالاف من المدارس الجديدة كل عام، ويحتاجون الي مئات الالاف من المدرسين، وعشرات الالاف من وسائل المواصلات والنقل ووسائل الاتصال، وملايين الاطنان من الملابس، والاف المستشفيات ودور العلاج والأطباء وهيئات التمريض، وغيرها وغيرها من ادوات ووسائل ومؤسسات الخدمات والمرافق والانتاج، وكافة لوازم وضرورات الحياة المختلفة والمتنوعة». ثم ارتفع صوته متحدياً ومحذراً في ذات الوقت وهو يقول لنا: »قد تتصورون انني ابالغ فيما اقول، ولكن ذلك غير صحيح فلا مبالغة علي الاطلاق،..، بل لابد ان تعرفوا، وأعتقد انكم توافقونني علي ذلك،أن ما قلته لكم هو عين الحقيقة، وأن زيادة عددنا كل عام ما يزيد علي المليونين ونصف المليون طفل تعني أننا نحتاج كل عام إلي كم هائل وضروري من الطعام والشراب والسكن واللبس والتعليم والعلاج ووسائل الانتقال.. بالاضافة الي شبكات مياه الشرب والصرف الصحي والكهرباء والطاقة،...، وقبل ذلك وبعده إلي مليونين ونصف المليون فرصة عمل جديدة كل عام،...، هل تدركون ذلك؟!». وصمت صديقنا عن الحديث،..، ثم استدار وغادرنا فجأة بنفس الطريقة التي هبط بها علينا فجأة، ولم يعطنا حتي فرصة الرد علي سؤاله الذي بقي معلقاً أمام أعيننا حتي الان.