• ستقابل رجلاً لم تقابل مثله من قبل ولن تقابل شبيها له من بعد! • كان يوم عيد ميلاده الثامن والخمسين، حين دعاني زميلي محمد عزب للقاء الرجل في مزرعته بطريق بلبيس، قال لي بالحرف الواحد ستقابل رجلاً لم تقابل مثله من قبل ولن تقابل شبيها له من بعد! إعتبرت كلام صديقي محاولة لإغرائي حتي أذهب معه في يوم حر من مارس عام 1995 خاصة أن السيارات المكيفة لم نكن قد عرفناها بعد، استجبت لصاحبي وذهبت معه إلي حيث يوجد الرجل الذي سمعت بإسمه لأول مرة من محمد عزب قائلاً أنه د. إبراهيم ابو العيش، ولا تسألني من هو؟ تعال وستري بنفسك من يكون الدكتور إبراهيم ابوالعيش، ترك الرجل كرسي مكتبه بمجرد دخولي إليه، وجلس أمامي علي الكرسي المواجه للمكتب، أول سؤال له ما هذه الألوان التي لم أعتدها في أي مكتب سواء كان رجل أعمال أو في هيئة حكومية، وما هذه البساطة التي تصل إلي قمة الشياكة في الديكورات والأثاث المكتبي الملائم للبيئة والمكان، أجابني د. أبو العيش بقوله: طالما سألت هذا السؤال فإن الهدف من هذه الألوان وهذه الديكورات وهذا الأثاث يكون قد وصل، كل ما يهمني أن يشعر العاملون هنا قبل الزوار بالجمال في بساطته وأناقته دون إفراط أو تفريط. قلت للدكتور أبو العيش جئت لاستمع ولم أحدد أية اسئلة، ربما سيكون الحوار من جانب واحد.. هو جانبكم.. ولكن أرجو ألا تصيبك الدهشة عن استفسار أو سؤال قد يبدو لك بديهياً. ابتسم د.أبو العيش وهو يقول هل نبدأ منذ عودتي من أوروبا - النمسا علي وجه التحديد - بعد أكثر من عشرين عاماً من الهجرة أم أبدأ برحلة الخروج من بلدتي مشتول السوق عام 1956 مسافراً إلي الخارج آملا في حياة مختلفة، أم عن عودتي عام 1977 باحثا عن الذات، واستطرد قائلاً: ربما يكون الخروج فعله الكثيرون من أقراني ومازال يفعله غيري من أجيال لاحقة ولكن لنبدأ من طريق العودة عام 1977 والاحلام التي راودتني والاساليب التي انتهجتها لتحقيقها. مشوار الالف ميل يبدأ بخطوة واحدة تمثلت في تخصيص ما يزيد عن مائة فدان في أرض صحراوية في مدخل مدينة بلبيس، كان حلمي أن أعود إلي الطبيعة وإلي الفطرة الانسانية في كل خطوات المشروع الذي استوحيت اسمه من كلمة في اللغة الهيروغليفية تعني أن الشمس التي اخضعها الله سبحانه لنا هي مصدر الحياة. ظهر لي الاعراب وأنا أخطو أولي خطواتي في الأرض الصحراوية، هذا يقول أنها ملكه أباً عن جد وذاك يقسم بأنه لن يدع غريباً يدخلها إلا علي اشلائه! دعوتهم الي جلسة حوار وشرحت ببساطة لهم فكرة ما انتويه وقلت لهم اعتبروا أنفسكم شركاء في هذا العمل علي قدر العطاء والمجهود ولكم ما تحددونه مقابل هذا المجهود، لم يصدق هؤلاء ما قدمته من عرض ولكن استمرار الجلسات والحوارات خلق نوعاً من الثقة جعلت من هؤلاء الحراس الأمناء منذ البدايات وحتي الآن. كان الهدف خلق مجتمع إنساني متكامل، تمنح فيه الفرصة للانسان أيا كانت مؤهلاته أو صفاته أو حتي إعاقته، يأتي من يريد العمل ويقدم لنا قدراته ويشرح إمكانياته وما يجيده والمهارات التي يمتلكها، لم أرفض أي شخص ولكنني كنت أملك التصنيف الجيد للاشخاص وأوجه كل مصنف الي حيث ميوله وقدرته علي العطاء. التدريب والتعلم كانا أساساً للجميع، استعنت بخبرات ألمانية معروفة بقدراتها وحزمها، بدأ العمل بالعشرات، سرعان ما وصلوا الي آلاف يعملون من خلال منظومة تضع اسمي القيم الانسانية شعاراً لها وهي العدل، الخير ، الجمال. وعاد أبوقردان الزراعة الحيوية كانت هدفي الاسمي، عودة ابوقردان والهدهد الي الحقول كان غاية، فمعني ذلك أن المبيدات التي قتلت أجيالاً منها لم يعد لها وجود، وأن السماد الطبيعي والاساليب الحديثة في الري ترشيدا للمياه وورش التصنيع داخل المشروع لا تدع من المنتج اي نسبة هالك، وبعد أن عاد المذاق الجميل إليه وأن يكون الطعام غذاء ودواء لا مسببا للداء كما في المنتجات الزراعية التي عرفت المبيدات والهرمونات. وسرعان ما طلب مني د. ابوالعيش النزول إلي ساحة المشروع لحضور مراسم الاحتفال بعيد ميلاده الثامن والخمسين، اصطحبني معه إلي الساحة وفوجئت بمربع كبير اصطفت علي اضلاعه أربعة طوابير من العاملين والعاملات لكل طابور زيه الخاص به بلونه المميز والذي يدل علي القسم الذي يعمل فيه. فردا.. فردا.. صافح د. أبو العيش كل العاملين المحتشدة بهم ساحة المشروع، كان كل منهم بعد المصافحة يتوجه الي الموقع الذي وضعت فيه الموائد تحمل الجاتوهات والمياه الغازية التي حرصت علي أن تقدم اطباقها السيدة الفاضلة زوجته التي التقي بها في النمسا وتزوجا هناك وعادت معه إلي مصر. حكاية الأحدب في حفل عيد الميلاد لاحظت عاملاً »أحدب» فسألته مندهشاً ما المجال الذي جعله يستعين بعامل أحدب للعمل فيه، أجابني: جاءني الاحدب يطلب مني إتاحة فرصة عمل، سألته ماذا تستطيع أن تعمل وما عرضه هو ما تم تكليفه به وصدقني أنه يؤديه علي أحسن وجه. ومن ساحة المشروع إلي منزله داخل المزرعة، من البيئة كل شيء استوحاه سواء في التصميم أو مواد البناء أو الاثاث، الكليم المصري والكنب بأغطية »الكريتون» لمقاعده والرسومات المستوحاة من الريف المصري والفرن البلدي الذي يتم فيه صنع الخبز وإنضاج الطعام والأهم من هذا وذاك السيدات والبنات بملابسهن الانيقة رغم أنها جلابية فلاحي ولكن عليها رسوم الزرع وآنية حفظ المياه والمناديل »أبو أويه» ان كانت الكلمة صحيحة إملائيا بألوانها الزاهية. المدير يطرق الحديد خرجنا من الغداء الي عنابر التصنيع، هذا رجل يرتدي البالطو الأبيض ويطرق الحديد وهو ساخن كما يفعل الحداد، سألت د. أبو العيش ما معني هذا المشهد ولماذا؟ أجابني هو مدير عام له سلطة اتخاذ القرار في وجودي أو عدم وجودي، وحتي يصدر القرار بلا تردد كان لابد من هذا التدريب ان يطرق الحديد وهو ساخن وهذا يدعوني للاطمئنان أنه لن يقف مشدوها وربما مشلولاً في اللحظة التي يجب ان يصدر فيها قراره. وجدت غرفة كبيرة عليها لافتة »المرسم»، فتح د. أبو العيش الباب لاجد عددا من الفلاحين والفلاحات يقمن بالرسم أو تلوين صفحات مرسومة وأعمارهن من سن الثامنة الي السبعين، سألته: قال انهم يتعلمون الجمال إذا أحسن تجميل ما يلونه وجعله متناسقاً أو قام برسم ما يراوده في خياله سيقدم منتجا جميلاً يسعي إليه المشروع. المدرسة ولون »المريلة» وما حكيناه حتي الآن كوم وما رأيته في المدرسة القابعة وسط هذا المجتمع الزراعي الصناعي الإنساني كوم آخر.. وأنا في طريقي إليها كانت الزهور تحيط بها من كل جانب وقبل ان يفتح لنا باب اطفال الحضانة سألت مرافقي كيف تحافظون علي هذه الزهور من عبث الأطفال، ابتسم قائلاً بالتربية الصحيحة، لابد ان يعلم أن هذه الزهور من أجل ان يكون المكان جميلاً ومن أجل جميع زملائه وكل عابر أمام المدرسة ولا يصح أن يستأثر بها لنفسه فيقطفها لتذبل بعد ساعات بين يديه في الوقت الذي ممكن أن تظل فيه أياماً وهي مبهجة للناظرين طالما لم أحرمها من بيئتها الطبيعية كما سيحرمها هو ان قطفها. داخل فصل الحضانة رأيت دولاباً مفتوحاً معلقا علي شماعاته التي هي في متناول الأيدي الصغيرة أزياء المدرسة »المريلة» بألوان مختلفة وقبل أن أسأل جاء الرد: يدخل الطفل الصغير يختار اللون الذي يريده وبناء علي اختياره يتم تحديد اسلوب التعامل معه والعمل علي صقله وتنميته إذا كان اختياره يعني نفسية إيجابية ليست إنطوائية أو تميل الي العنف أو الصخب والهرج والمرج وربما يدل اللون علي جنوحه للكذب، نفهم نفسية الطفل من إختياره الأول للون المريلة ومعها نضع اساساً للتعامل. الحفيدة وابن »الغفير» من بعيد وجدت طفلة تمسك بالفرشاة وتنظف مجموعة الأحذية الخاصة بزملائها، قال لي مرافقي هل تدري من هذه؟ أنها حفيدة د. إبراهيم ابوالعيش، كل طفل يتحمل هذه المسئولية يوماً بشكل دوري وهي صيغة للتعاون والتآخي لا فرق بين ابن صاحب المشروع والخفير الذي يقف علي البوابة وأولاده في نفس المدرسة. وجدت الأطفال يقومون بتفكيك ألعاب وإعادة تركيبها، أنهم ببساطة يزرعون في الطفل التفكير والابتكار بعيدا عن الالعاب الحديثة ذات الريموت كونترول التي لا تستمر مع الطفل الا سويعات معدودة لأنه ببساطة يحاول تفكيكها بحثا عن الاسرار التي تجعلها تتحرك عن بعد، لم أجد ورقة وقلما، الواح اردواز يحركها الطفل.بها يتعلم الحساب وحروف الهجاء، لا قلم يمسكه الطفل قبل سن السابعة، ولا عمليات حسابية يطالب بها بالورقة والقلم أو كلمات حتي لو كانت بسيطة، نعم يستطيع ان يفعل ذلك قبل السابعة ولكن كله علي حساب ما كان يجب أن يذهب الي نواح أخري في جسده ليستكمل منظومة نمو كل الاعضاء ولا تقتصر علي أن تذهب كل امكانياته إلي المخ فقط حتي يستوعب ما يفوق قدراته قبل سن السابعة. انتهي اليوم الطويل داخل مشروع د. ابراهيم ابو العيش ورغم ان هذا اليوم مرّ عليه 22 عاماً ولم يحدث للأسف أن التقيت ثانية بهذا الرجل العظيم، ولكن لم تنته تداعيات يوم عشته مع هذا الرجل ومجتمعه المثالي وهي التداعيات التي اجترها قلمي مع سماعي خبر وفاة الرجل وتشييع جنازته الجمعة قبل الأخيرة من رمضان - وللأسف لم أعلم بخبر الوفاة إلا في اليوم التالي - وجدت هذه الذكري تقفز إلي ذهني لأكتبها وكأنني عشتها بالامس فقط. وإذا كان حلم المدينة الفاضلة داعب خيال افلاطون ولم يحقق منه شيئاً إلا علي الأوراق فقط، فلقد داعب هذا الحلم خيال د. إبراهيم ابو العيش وحققه في مصر. جائزة نوبل البديلة عام 2003 حصل دكتور ابراهيم أبو العيش علي جائزة المانية في مجال التنمية البشرية معروفة باسم نوبل البديلة، وأتصور أنه العربي الوحيد الذي حصل عليها علي عكس نوبل المعروفة التي حصل عليها أكثر من مصري، الجائزة كانت تتويجا لجهود الرجل في خلق مجتمع انساني متكامل وسط الصحراء أعاد فيه للانسان آدميته وأعاد للمنتج الزراعي جودته ورونقه، وقدم نموذجا عالميا لمن أراد أن يقتدي به ويترك وراءه أروع وأعظم القيم الانسانية: عدل وخير وجمال.