عندما جاء الدكتور إبراهيم أبوالعيش، مؤسس مبادرة «سيكم» للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، إلى ذلك المكان القريب من بلبيس لم يكن حوله سوى رمال وصحراء قاحلة، لكن العلم الذى جاء به من أوروبا وقبله طريقة التفكير حولت الرمال إلى روضة خضراء. فى عام 1977 قرر أبوالعيش العودة من أوروبا بصحبة زوجته النمساوية وطفليه حلمى ومنى، ومع أنه كان قادما من ربوع جبال الألب فإنه قرر الاستثمار فى الصحراء بدأها ب70 فدانا أصبحت الآن أكثر من 8 آلاف فدان تزرع بطريقة الزراعة الحيوية التى تحافظ على البيئة وصحة الإنسان. أطلق د. أبوالعيش على مشروعه اسم «سيكم» وهى كلمة هيروغليفية تعنى «القوة الحيوية»، وبمرور الوقت تحولت الصحراء إلى أرض خصبة ومجتمع متكامل، يعمل فيه المصريون إلى جوار الأجانب. يستثمر فى البشر ويخضر رمال الصحراء بعيدا عن زحام الوادى. حصل أبوالعيش على جائزة نوبل البديلة عام 2003 لكون «سيكم» نموذجا مثاليا لإحدى شركات القرن الواحد والعشرين التى يتكامل فيها النجاح التجارى ويتعزز بالتنمية الاجتماعية والثقافية للمجتمع. كما حصل على الوسام الألمانى «نوط الاستحقاق الأعظم» من الدرجة الأولى، وذلك لعمله فى مجال التنمية الاجتماعية والاقتصادية. وجائزة كلاوس شواب بالمنتدى الاقتصادى العالمى، كما كرمه البرلمان الأوروبى كأحد رواد الأعمال الاقتصادية ذات المرجعية الأخلاقية فى العالم، ومجلس مستقبل العالم الذى يضم فى عضويته 50 من الشخصيات البارزة فى العالم. على الرغم من ثراء تجربته فى الزراعة الحيوية فإنها لم تكن محور حديثنا معه ولكنها كانت منطلقنا للحديث عن الأحوال العامة. فى حواره مع «الشروق» قال أبوالعيش: إن على رجال الأعمال أن يدركوا أن الثروات الطبيعية فى البلد لابد أن تدار لمصلحة المجتمع وليس لمصلحتهم الشخصية، داعيا إياهم للمساهمة فى التنمية المستدامة التى تعود فى المدى البعيد على المجتمع ككل. وقال إن مشروع توشكى فاشل ويكفى ما تم إنفاقه عليه، داعيا إلى استصلاح الأراضى الصحراوية الموازية للوادى. الشروق: ما أنشطة «سيكم» الاقتصادية والثقافية؟ أبو العيش: «سيكم» هو مشروع للتنمية المستدامة. والتنمية المستدامة معناها أن يوجد مجتمع حى؛ أى مجتمع يجدد نفسه باستمرار، لا يقف ولا يتجمد، ويضيف للمجتمع الإنسانى. مجتمع حى يكون لديه ابتكارات لحل المشكلات التى تواجهه، ولكى نصل إلى هذا المجتمع الحى لدينا ثلاثة محاور نعمل عليها فى «سيكم»: المحور الاقتصادى ويهدف إلى تشغيل الناس للحفاظ على القيم الإنسانية والبيئة. محور حقوق الإنسان، ونقوم بتعليم الناس كيفية الحفاظ على حقوقهم. فمن غير الممكن أن يدافع أحد عن حقوقه دون أن يعرفها وحقوق الإنسان هى الجزء السياسى الموجود فى هذا المجتمع الحى. أما المحور الثالث فهو المحور الثقافى، وهو يشمل التعليم بكل درجاته الحضانة والابتدائى والإعدادى والثانوى والتعليم الفنى والتعليم لذوى الاحتياجات الخاصة وتعليم الناس الذين لم تسمح ظروفهم بالتعليم مثل أطفال الشوارع والمتسولين، وتقوم به جمعية خيرية تابعة للمؤسسة. أيضا نهتم بصحة العاملين لأن أى مجتمع حى يجب أن يبنى على أناس أصحاء. هذه هى المحاور الثلاثة التى تهتم بها «سيكم» وإذا تم تحقيقها فسيصبح لدينا المجتمع الحى. الشروق: هل ترى أن المجتمع المصرى مجتمع حى فى الوقت الحالى؟ وهل الثقافة المصرية مازالت ثقافة منتجة؟ أبو العيش: السؤال هل الثقافة منتجة أم غير منتجة لا يؤدى إلى حل للمشكلة. السؤال هو كيف يتم تحسين هذا الوضع؟ وما البدائل؟ الكل يعرف الرد على سؤالك! لكن ما البدائل التى تجعل الظروف تتحسن، بمعنى تحسين التعليم والصحة. المجتمع الحى يحتاج إلى التطور، لكن أين هى الآن؟ كلنا نعرف أين هى الآن. الشروق: ما المعوقات التى تواجه المجتمع المصرى الآن؟ أبو العيش: المعوقات كالآتى: أولا الأشخاص الذين يقومون بإدارة الاقتصاد فى مصر مثل رجال الأعمال فهم أحد هذه المعوقات، لابد أن يفهموا أن الثروات الطبيعية فى البلد لابد أن تدار بحكمة شديدة جدا لمصلحة المجتمع وليس لمصلحتهم الشخصية، فمن ضمن المعوقات، أن تجد رجل الأعمال يتصور أن الأرباح التى يجنيها ملكا خاصا، يستطيع أن يفعل به ما يشاء وهذا لا يصح. ثانيا: نوعية المنتج أو الخدمة فلابد أن يراعى فيها القيم الإنسانية بحيث لا تعطينى منتجا أو خدمة إلا لكى أنتفع بها. لا لكى أشتريها وأنت تربح. إذن فلسفة الاقتصاد هى واحدة من المعوقات فى المجتمع، أن يتصور أحد أنه حقق أرباحا لأنه «نبيه» بغض النظر عن الطريقة التى تحقق بها هذه الأرباح، فهذا بالتأكيد واحد من المعوقات الأساسية، الناس لا تفهم أن الاقتصاد يجب أن يعمل للحفاظ على القيم الإنسانية وعلى الموارد الطبيعية. الشروق: حدث تراكم رأسمالى فى مصر مثل الذى حدث فى أوروبا فى عصر الثورة الصناعية لكن هذا التراكم لم يهتم ببناء صناعة وطنية ولم يركز على تنمية المجتمع، والآن يشكو رجال الأعمال من عدم وجود أيدٍ عاملة ماهرة، ويحلون هذه المشكلة بجلب عمالة أجنبية.. كيف نصنع توازنا بين التراكم الرأسمالى والمجتمع المتدهور الذى نتحدث عنه؟ أبو العيش: ليس بالضرورة أن يفهم رجل الاقتصاد فى الثقافة والتعليم والصحة والبحوث، لكن عليه أن يشجع المراكز التعليمية التى تبحث عن أساليب جديدة ويساندها ويتبرع للبحوث التى تقوم بها. التراكم المالى فى أى مجتمع يأتى عن طريق الاقتصاد لأنه لا يوجد مورد آخر يؤدى إلى زيادة فى القيمة مثل الاقتصاد، فالتعليم والصحة والبحوث تحتاج إلى فلوس، حتى تدريب الناس على حقوقها يحتاج إلى فلوس والفلوس كلها تأتى من الاقتصاد، ويجب على رجال الاقتصاد أن يكون لديهم الوعى الكافى لمخارج هذه الأرباح، ليس فقط فى دفع الضرائب، ولكن المسئولية الاجتماعية التى تتحدث عنها. الشروق: حين عدت لمصر فى منتصف السبعينيات، كانت قد بدأت بالفعل هجرات كبيرة وأصبح حلم الشباب أن يهاجروا يأسا من البقاء فى مصر. الناس لا ترى المستقبل بشكل واضح.. هل ترى أملا لهؤلاء الشباب أن يعيشوا فى مصر ويجدوا فرص للعمل والعيش حياة كريمة؟ أبو العيش: نظام التعليم الموجود فى مصر لا يعلم الإنسان غير الاعتماد على شخص آخر غيره. ويجعل الناس ينتظرون شخصا آخر، بينما لا يملكون القدرة على المبادرة للقيام بالعمل بأنفسهم. لو أن الإنسان تعلم أن يبادر ويتفاعل مع الحياة فسوف يجد نفسه يستطيع أن يفعل كل شىء. نظام الحياة والتعليم هنا لا يعلم المبادرة، وهذا ما يجعل الشباب ينتظر المساعدة وهذه إهانة. وهذه الاتكالية لا أرجعها للشباب بقدر ما أرجعها لأسلوب التربية والتعليم الموجود فى مصر. الشروق: من ضمن محاور المجتمع الذى تحدثت عنه السياسة، ما علاقتك بالسياسة فى الوقت الحالى؟ أبو العيش: الحكومة والسياسيون فى مصر يحتاجون إلى من يقول لهم أين الصواب وأين والخطأ. ويقول هذا بطريقة مهذبة ومنطقية. فمثلا مجلس التنافسية المصرى حين يقدم تقريرا عن الوضع التعليمى لدينا مقارنة بالدول المحيطة ومن ثم يقدم تصورا لكيفية تغيير هذا الوضع فهو يفيد الحكومة. حين نقول أيضا: انتبهوا لدينا فساد فى مصر والفساد له هذه النتائج. إذ نقدم حلولا للمشكلات ونقترحها على الحكومة، والحكومة كثيرا ما تأخذ بها. كل حكومة تأتى يكون لها برنامج عمل ومن ثم نحاسبها بناء على ذلك. فالمجتمع المدنى أصبح عليه دور موازٍ للمؤسسات التقليدية مثل مجلس الشعب وغيره. الشروق: هل أنت عضو فى لجنة السياسات؟ وما رأيك فيها؟ أبو العيش: لا، ابنى عضو بها، هم أناس مجتهدون.. ماذا تعنى كلمة سياسة؟ هى «علم وليس ضرب ودع ولا قراءة فنجان»، فالسياسة علم غزير، إما أن يكون لدى أو أبحث عمن يعرفه ليساعدنى فى الإدارة، فالسياسة هى الإدارة المبنية على علم، ولا تعنى شخصا فهلويا يجيد كيف يمشى أموره لكى ينتخب من الناس، أو يضمن البقاء فى الكرسى. «دى مش سياسة دى قلة أدب». الشروق: لجنة السياسات شكلت من أجل جمال مبارك، وهناك من يعتقد أن الهدف منها هو تكوين مجموعة مؤيدة للتوريث. هل وجود ابنك فيها يعنى أنك تؤيد التوريث؟ أبو العيش: هذه وجهة نظر جديدة بالنسبة لى. وإذا صح هذا، فهو يدخل فى إطار المؤامرات وليس فى إطار السياسة. هذه ليست وسيلة لحكم بلد؛ أن يجتمع بعض الناس للتمهيد لشخص ما لكى يصبح رئيسا لخدمة مصالحهم الخاصة.. «وإذا كانت لجنة السياسات تعمل هذا يبقى اسمها لجنة حاجة تانية مش لجنة سياسات، فالسياسة شىء آخر، ممكن تسميها لجنة مؤامرات لكن السياسة تعنى العلم». الشروق: مصر مقبلة على انتخابات رئاسية فى عام 2011 ونحن لا نعرف ما مصير البلد. هل لك رؤية فى فترة ما بعد مبارك وما رأيك فى هذه الفترة الانتقالية؟ أبو العيش: نحن كمصريين قصيرو النظر جدا حين نتصور أن بلدنا يديره شخص واحد وأنه لا توجد مؤسسات أو وزارات. إذا كان مبارك أو غير مبارك فلا يوجد أحد سيعيش للأبد، وعمر بلدنا بقاؤها ما كان متعلقا بمن يحكم، طبعا هو له تأثير لكن لا تنسى دور المؤسسات التى بنيناها عبر مئات وآلاف السنين. نحن لا نعرف شيئا عن كثير من الناس فى الوزارات التى تسير أحوال هذا البلد. السؤال ينبغى أن يسأل بشكل عكسى" هل مؤسسات الحكم المحلى هى مؤسسات قوية ولا يوجد بها فساد؟ وهل تتبع الأسلوب العلمى فى التفكير والتنفيذ؟ هذا سؤال أنجع كثيرا من مبارك ولا غير مبارك. ولكن معروف أن الحاكم فى مصر لديه سلطات واسعة، وهو الأساس فى التغيير سواء الإيجابى أو السلبى، ولا يوجد شخص فكك هذه المعادلة الموجودة منذ 7 آلاف سنة إلى الآن.. وإلى أن يحدث عكس هذا فالحاكم هو العامل الأساسى فى وجود الفساد من عدمه ووجود الحرية من عدمها إلخ.. قد يكون الحاكم بعيدا عن بعض الأمور لكن هذا لا يعنى أنه لا يستطيع التغيير. انظر لقد ظلت البشرية تبحث عن حل لسؤالك هذا مئات السنين. وقد حكم أوروبا أصناف كثيرة من الحكام، منهم المجانين الذين انحدروا ببلادهم ومنهم العقلاء الذين ارتقوا بها، لكن العصر الحديث أصبح عصر المجتمع المدنى، أصبح دور الفرد أساسيا، أنا وأنت نستطيع أن نغير الأوضاع فى مصر فلا يجب أن نرجئ قدرنا لشخص أو حكومة، هذا عصر انتهى. يجب أن نشجع المجتمع المدنى الذى يستطيع أن يقول للحكومة توقفى، ما تفعليه خطأ ويستطيع أن يقول لرئيس الدولة توقف، ما تفعله خطأ. من غير الممكن أن يتحكم شخص واحد فى مصير 80 مليونا. لكن أن نعول على شخص واحد فهذا خطأ حتى وإن جاء لنا ملاك بعد الرئيس مبارك يجب أن يكون دورنا كمجتمع مدنى نشطا. الشروق: الوادى والدلتا يعانيان من تدهور التربة بسبب استخدام المبيدات والأسمدة لماذا اخترت أن تنفذ مشروعك للزراعة الحيوية فى الصحراء، ألم يكن من الأولى أن تقوم بالزراعة الحيوية فى الوادى؟ أبو العيش: الزراعة الحيوية يمكن أن تكون فى أى مكان، وبالعكس فالاستفادة الأكبر ستعود من الزراعة فى الصحراء، لأن مشكلتنا فى التكدس السكانى الكبير فى الوادى والدلتا، ولابد من التوجه إلى الصحراء لأنه لا يمكن أن يعيش 80 مليونا فى هذا الشريط الضيق. الأسلوب الذى استخدم فى استصلاح الأراضى فى مصر لا يساعد لأنه يؤدى إلى تدهور الأراضى الصحراوية المستصلحة تدهورا شديدا بسبب استخدام الكيماويات والمبيدات. ما فعلته «سيكم» أعطى مثلا لكيفية استزراع الصحراء بشكل يجعل خصوبتها مستديمة. الشروق: لماذا لم تذهب للاستثمار فى توشكى؟ أبو العيش: ذهبت إلى توشكى لكنى قررت ألا أستثمر هناك. كان الله فى عون من درس ونفذ هذا المشروع. وأنا أرى أنه يجب إنقاذ ما يمكن إنقاذه. ولا نغالى فى إن قلنا إننا كسبنا مساحات من الأراضى، صرفنا مليارات الجنيهات هناك دون جدوى. كان من الممكن أن نستزرعها غابات خشبية، وقد يؤدى ذلك إلى تغير المناخ. لأن الناس لم تستطع الانتقال والاستقرار هناك. فلا الأمير فلان ولا الوزير فلان يستطيع أن يكوّن مجتمعا يعيش فى هذه المنطقة وينتج. يجب أولا أن نوفر للناس مجتمعا حتى يتعلم أبناؤهم وتلقى أسرهم رعاية صحية. الشروق: ما المنطقة الصحراوية التى تصلح للاستصلاح بديلا عن توشكى؟ أبو العيش: أرى أن نتحرك نحو الصحراء بموازاة الوادى وبالتالى سيكون الفلاح قريبا من أهله فى حين أنك إذا أخذته ليعمر صحراء بعيدة عن مجتمعه فلن ينجح هذا الأمر. الشروق: ما سبب تعطل مشروع الجامعة التى تتبنونها؟ أبو العيش: أنا لا أريد أن أسميها جامعة لأن الجامعات المصرية لها دور ولكن أريد أن أسميها أكاديمية لأننا ستقوم بشىء جديد غير ما تقوم به الجامعات. ستكون أكاديمية مرتبطة بالمجتمع. وقد تقدمت بهذا المشروع للحكومة منذ أن كان الدكتور مفيد شهاب وزيرا للتعليم العالى، وكل الوزراء عبروا عن استحسانهم وكلهم أرسلوا الموافقات بكل استحسان وسنبدأ العمل فى الأكاديمية العام الدراسى الحالى. الشروق: لدينا أكثر من نوع بالتعليم فى مصر؛ التعليم الحكومى والخاص والأجنبى، ما رأيك فى هذه التجارب؟ أبو العيش: التعليم الحكومى جيد لو كان عدد المنتسبين إلى الجامعة أقل لأن العدد الكبير يعوق عملية التعليم، والله فى عون الأساتذة ورؤساء الجامعات الذين يديرون هذه الجامعات. الجامعات الخاصة والأجنبية كلها محاولات لوضع بدائل لهذا الوضع الصعب وأى محاولة من هذه المحاولات لابد أن نحترمها ونرفع لها القبعة. لا أرى ضررا من وجود ألوان متنوعة من التعليم فى مصر بل على العكس، فالحكومة تنفق سنويا 420 دولارا على الطالب فى الجامعات الحكومية، فى حين تنفق الحكومة الأمريكية 14 ألف دولار وتنفق إسرائيل 12 ألف دولار. نحن فقراء لأن نقدم مستوى تعليميا جيدا. أهلا بأى أحد يأخذ جزءا من هذا الكم الكبير ويعلمه، مهما كانت البدائل فهى أرحم من زحمة الجامعات الخاصة. سمعت أن هناك من يسرق ولا يقوم بتعليم، وهذا الأمر يوجد فى كل العالم. ولكن هذا لا يعنى أن كل الناس لصوص، يجب أن نعمم، هذه الجامعات بديل جديد.