وحشني الحديث إلي الاوراق..أخذني العمل الصحفي اليومي من نفسي ومن أسرتي..وغرقت في تفاصيله اليومية شبه المكررة حتي انني نسيت متي كانت آخر مرة عشت فيها ليلة مع كتاب حتي الصباح. الأربعاء : انا عاشق للرياضيات والمعلومات العلمية لأن الرياضيات بعيدة عن الكذب والخداع فحاصل جمع واحد زائد واحد دائما يساوي اثنين..والعلم هو الواقع الذي نعيشه بدون زيف أو تدليس..وأتذكر وأنا في الصف الثاني الاعدادي حصلت من مدرس الرياضيات علي 15 قرش ورق لأنه بمجرد أن ترك أصبع الطباشير رفعت يدي لحل المسألة..وخرجت إلي »السبورة» وأجبت الاجابة الصحيحة وسط ذهول أقراني..حتي في الثانوية العامة اخترت قسم الرياضيات وكنت من المتميزين بها وعضوا أساسيا في فريق أوائل الطلاب بالمدرسة ففي أيامنا كانت المدارس جاذبة للطلاب..وكنا مع بداية العام يتم تنظيم مسابقات بين الفصول ليتم في النهاية اختيار فريق أوائل الطلبة لنشارك في منافسات مع باقي المدارس بالمحافظة أولا ثم علي مستوي الجمهورية. المدارس أيامنا كانت مختلفة فبكل مدرسة مشتل لحصة الزراعة..ومعامل للعلوم وغرف للمجالات نمارس فيها الهوايات..وملعب ننافس فيه في مباريات لكرة القدم والسلة والطائرة..ودائما كانت المواد العلمية الجاذبة لي، فقد تعودت علي الفهم ومعرفة المضمون وليس الحفظ والترديد كالببغاء..وكنت أصنع معادلات في الكيمياء..وفي احدي المرات كنت معرضا للفصل من المدرسة.. عندما حضر مدرس »الاحياء» بديلا عن مدرسنا »الغائب»..وكان هذا المدرس يعشق أن يعطينا بجهل دروس في الكيمياء..ورفعت إصبعي لأسأله سؤالا عن احدي المعادلات وأنا مدرك أنه لن يعرفها..وعندما وجدته حائرا يبحث عن من ينقذه قمت وأجبت عن السؤال..ثم سألته سؤالا ثانيا..وأعطيت الاجابة لزميل بجواري فقالها وصفق كل الزملاء في الفصل وحدث هرج ومرج..فما كان من المدرس إلا أن جمع خمسة منا كنت أنا أحدهم..وسلمنا إلي مشرف الدور متهما إيانا بأننا نثير الشغب وندخن السجائر في الفصل..ولأن مشرف الدور من الاساتذة الاجلاء ومن ذوي الخبرة ويعرف طبيعة وأخلاق كل منا أدرك أن الاتهام باطل فتجاهله ومنعه من الدخول إلي فصلنا حتي نهاية العام. الخميس : مازلت حتي الآن أملك القدرة علي اجراء العمليات الحسابية البسيطة بدون ورقة وقلم أوآلة حاسبة فالتعليم علي أيامنا كان يعتمد علي المهارات العقلية واليدوية وليس الكمبيوتر و»الكي بورد»..وكانت الخطوط التي نصنعها بالاقلام في أيدينا تحفر في صخرة عقولنا وترفض الزوال او الاختفاء..وأتذكر في أحد امتحانات الجامعة وكان في مادة النحو أنقذتني المذاكرة في المراحل الدراسية قبل الجامعة من الرسوب..فقد كانت المادة مقسمة بين اثنين من الاساتذة الاجلاء..وتعودنا علي مدار سنوات أن أحدهما يأتي الجزء الخاص به معتمدا علي الاسئلة النظرية..والآخر علي العملية..وفي هذا الامتحان عكسا الامر.. ولم يكن من الصعب علي ان أحول ما ذاكرته عمليا إلي نظريا..ولكن الصعوبة جاءت في تحويل النظري إلي عملي وضرب الامثلة..وبعد انتهاء لحظات التوتر لم اجد امامي وسيلة سوي تذكر ما كنت أدرسه في المرحلتين الاعدادية والثانوية..ورغم مرور سنوات نجحت في ضرب الامثلة الصحيحة وكنت واحدا من سبعة بالدفعة حصلوا علي تقدير امتياز في النحو. أنا لست مع من يصفون الدراسة الابتدائية والاعدادية والثانوية بأنها مراحل تنتهي بانتهائها ولا يستفاد منها بالجامعة..فهي مراحل إعداد إن تعاملنا معها بعناية تفيدنا بالجامعة وفي الحياة..ولانه ليس كل ما يتمناه المرء يدركه فكان نصيبي أن أذهب إلي كلية بعيدة كل البعد عما أحبه من عالم الرياضيات والمواد العلمية وما كان متوقعا من كل من كان حولي حتي أساتذتي بالمدرسة..وخاصة بعد أن رفض والدي رحمة الله عليه أن أعيد العام مثل صديقي اشرف فتحي الذي التحق في العام التالي بالكلية الفنية العسكرية..وقال ما يأتي به مكتب التنسيق هو نصيبك ومستقبلك..ورغم أنني تحايلت علي مكتب التنسيق وكتبتها الرغبة الثلاثين من ثلاثة وثلاثين رغبة وكان المفروض أن أكتب عشرة معاهد عليا فقد جاءت لي كلية دار العلوم لتفتح لي الطريق لأكون صحفيا وأصل إلي منصب مدير تحرير تنفيذي في محبوبتي جريدة »الاخبار»التي احتفلنا هذا العام بمرور خمس وستين عاما علي ميلادها بيد العملاقين مصطفي وعلي آمين..بعد أن وجدت ضالتي في الكلية في »جماعة الصحافة» والتي كانت وقتها تصدر مجلة نصف سنوية فقيرة الطباعة..واخترت ان اكتب فيما أعشق وكنت محررا لباب العلم..وابتكرت بابا اسمه »علي باب الجامعة» اختار فيه طلابا وطالبات من الكليات الأخري أمطرهم بعدد من الاسئلة عن الحياة الجامعية والمشكلات والكتاب الجامعي والاساتذة والمحاضرات..وكان من أنجح الابواب في مجلتنا الفقيرة التي اسميناها »الدار». الجمعة: كان يوم الجمعة 11يناير 1983 يوما مختلفا في حياتي..فقد انتقلت من محرر في مجلة جامعية إلي محرر تحت التمرين ب»الاخبار»..فقبل أيام أخبرتني زميلة الدراسة ومجلة الدار صفاء نوار »نائب رئيس تحرير الاخبار » الآن أن الكاتب الصحفي الكبير مصطفي أمين أنشأ قسما جديدا يسمي »لست وحدك» يساعد المحتاجين طوال العام بالاضافة إلي أبواب ليلة القدر وأسبوع الشفاء ونفسي الذي يلبي أمنيات الاطفال..وانه يحتاج الي أعضاء جدد وأنها اقترحت عليه اسمي ووافق أن يراني..بخطوات مختلطة بالسعادة والخوف في آن واحد صعدت سلالم المبني التاريخي ل»اخبار اليوم» الذي يجمع بين العراقة والجمال والصحافة..وللمبني قصة قرأتها في اول كتاب أهداه لي أستاذ الاساتذة مصطفي بك أمين كتبه الاستاذ سامي عزيز بعنوان ثورة في الصحافة ، يحكي فيها حكاية »أخبار اليوم » والتوءم مصطفي وعلي امين وذيلت صفحته الاولي بثمنه في ذلك الوقت ثلاثون قرشا. نقلني سامي عزيز في بداية كتابه إلي حال الحياة السياسية والصحافة بالنصف الاول من أربعينيات القرن الماضي..كانت تلك الفترة التي أعقبت حادث 4 فبراير عام 1942 هي عصر الظلام السياسي في مصر..عندما حاصرت القوات البريطانية قصر عابدين..وأجبر السفير البريطاني المللك فاروق علي توقيع قرار باستدعاء مصطفي النحاس زعيم حزب الوفد لتشكيل الحكومة بمفرده أو يتنازل عن العرش..فقد كانت هناك وزارة الاغلبية في الحكم بقيادة النحاس..والحاكم الحقيقي هو السفير البريطاني.. حكم نيابي علي الورق وطغيان دكتاتوري في الحقيقة..دستور معلن وأحكام عرفية معلنة أيضا!..فالصحف حرة تكتب ما تشاء والحاكم العسكري حر يشطب من الصحف ما يشاء.. كانت الصحف »الحكومية» تكتب وتتحدي المعارضين أن يردوا علي اتهامات موجهة اليهم..فاذا حاول المعارضون أن يردوا حذف الرقيب هذه الردود ومنع نشرها..واذا وزعت المعارضة منشورات بوجهة نظرها صادرتها الحكومة واعتقلت الشباب الذين يوزعونها..ثم اعتقلت الذين يطبعونها..ثم اعتقلت الذين يقرأون المنشورات..كانت الحكومة المصرية تعتبر نفسها مسئولة عن المجهود الحربي للدولة الحليفة..وتري في أي كلمة معارضة لها طعنا في الدولة الحليفة..وأي نقد بريء لها محاولة لتعطيل المجهود الحربي. السبت: في هذا المناخ المعقد سياسيا وصحفيا أعلن مصطفي أمين رئيس تحرير مجلة الاثنين التي كانت تصدر عن دار الهلال، لتتولي هي المعارضة ضد الحاكم العسكري..فبعد فوز النحاس بأغلبية كبري في الانتخابات كتب مصطفي أمين : »في استطاعة الوفد بهذه الاغلبية أن يفعل كثيرا..فله أغلبية يستطيع بها تعديل الدستور اذا شاء..ويستطيع بها أن يفرض رأيه في كل شأن عظيم أو حقير..وتستطيع أن تمرر أخطر القوانين دون مناقشة ودون بحث او اعتراض.. واذا لم تكن هناك معارضة قوية في داخل البرلمان..فيجب ان تكون هناك معارضة خارج البرلمان..فليس الوزراء الا بشرا مثلنا يحسنون ويسيئون..واذا كان الناس يحزنون لأنه ليس بين أعضاء الاقلية من النواب من يعرف كيف يعارض وكيف ينتقد فإن الصحافة الحرة تستطيع أن تتزعم المعارضة علي شريطة أن تكون معارضة نزيهة لا تبغي الهدم ولكنها تؤيد البناء» واصل مصطفي أمين ومحررو الاثنين حمل لواء المعارضة وابتكار شخصيات بريشة الفنان »رخا » مثل »حمار افندي» و»ابن البلد» و»غني حرب» و»سكران باشا طينة»..واستمرت مجلة الاثنين في لعبة القط والفأر مع الحكومة والحذف للشخصيات والتحقيق مع رئيس التحرير والمحررين حتي كان عام 1944 فحدثت إقالة النحاس..وواصل مصطفي أمين حملته محاولا الكشف عن مخازي العصر النحاسي..ووقع خلاف بينه وبين صاحبي مجلة الاثنين في تفسير كلمة »الاستقلال»..وحاول صاحبا الاثنين إرغام مصطفي امين علي عدم الخوض في الاحوال السياسية والكشف عما يدور فوضع مصطفي أمين حدا لرئاسة تحرير الاثنين. وكان من الصعب وضع »أغلال الحياد» قي أعناق محرري الاثنين فجمعوا أوراقهم وغادروا دار الهلال لتعود من جديد فكرة إصدار »أخبار اليوم» والتي ولدت سرا خلال عام 1927 عندما كان مصطفي وعلي يستذكران دروسهما وتحولا لكتابة المقالات التي كان يحملها مصطفي ويعبر بها من نافذة حجرتيهما ليذهب إلي صديق لهما يحملها بدوره إلي التابعي..فقد كانت اسرة التوءم تعتبر الصحافة »حرفة التسول وقطع الطرق»..لتولد »أخبار اليوم» في يوم السبت 11 نوفمبر 1944 لتحدث ثورة في الصحافة. الاحد: لقد تجمعت عوامل كثيرة تدعو إلي ظهور جريدة جديدة تكشف الستار عما دار ويدور..تتحدث بلا خوف عن المآسي التي اقترفتها الاحزاب والحكومات..تزيل أقنعة القداسة عن تلك الرؤوس التي احتكرت السياسة وأمسكت برقاب العباد سنوات طويلة..جريدة تدعو إلي الاصلاح والتقدم والأخذ بأساليب الحضارة الحديثة والركب في سير المدنية الدافقة..جريدة لا يملكها شخص بل يملكها عمالها وقراؤها واليهم وحدهم يعود الفضل في نجاحها أو فشلها..فقد كانت رائحة الفساد قد زكمت الأنوف..وحان الوقت لينفذ مصطفي وعلي أمين حلمهما الذي مر عليه 13 عاما. طلب مصطفي أمين تصريحا من وزارة الداخلية باصدار جريدة باسم »أخبار اليوم» فانهالت عليهما عروض من البشوات..لكن التوءم رفضا العروض خوفا من ضياع اموال اصحابها..وقررا المغامرة بأموالهما..وأعطتهما أمهما كل ما تملك من أموال ومجوهرات..وانطلقت »أخبار اليوم» من شقة علي سطوح عمارة في شارع قصر النيل..وكان الجمع والتوضيب في مطبعة »المصري» والطبع في »الاهرام»..وكان مصطفي وعلي أمين ومحررو» أخبار اليوم » يحملون الجريدة لتوصيلها إلي سيارة لوري ويركبون معها إلي المطبعة.. ونجحت الجريدة الناشئة في طبع 126 الفا و750 نسخة في عددها الاول..وتصدرت صفحتها الاولي تحت عنوان »حكمة اليوم» كلمات فولتير:»إني خصمك في الرأي ولكني لا أتردد في أن أبذل آخر نسمة في حياتي وآخر قطرة من دمي دفاعا عن حقك في إبداء رأيك». الاثنين: قبل أن تستقر مالية الجريدة اشتري التوءم مصطفي وعلي أمين قطعة أرض بالتقسيط في عشش الترجمان ليقيما عليها مبني ويشتريان له مطبعة..اختار التوءم عشش الترجمان لانها أرخص أرض بالقاهرة فقد كانت منطقة تفتقر لأي خدمات ولم تدخلها الاضاءة وليس بها شوارع وتسكنها الثعابين..فأرادا تحويلها إلي منطقة نظيفة خالية من تجارة المخدرات..ووضع مصطفي وعلي أمين حجر الاساس للدار الجديدة في العيد الاول لأخبار اليوم..وقامت الجريدة بحملة صحفية مستمرة مطالبة بإنشاء شارع الصحافة وإلغاء القطار الذي يمر إلي ثكنات الجيش بقصر النيل.. واستبداله بشارع الجلاء..وهو ما كان ،وتحولت المنطقة من بقعة مزدحمة بالاكواخ إلي واحدة من أهم مناطق القاهرة..لتخرج أخبار اليوم في آخر يونيو 1947 وبها عبارة:» يصدر هذا العدد من أخبار اليوم من دارها الجديدة التي تم تشييدها في صمت». وفي يونيو 1952 ظهرت محبوبتي جريدة »الاخبار» اليومية لتكون منبرا للصحافة الحديثة وتضع في صفحتها الاولي 30 خبرا مكتوبا بطريقة تلغرافية بدلا من الاكتفاء بخبرين كبيرين بالصفحة الاولي كالصحف اليومية التي كانت تصدر في ذلك الوقت..وقال مصطفي بك أمين في لقاء مع المحررين الاخباريين : »إن الاخبار ذات الصبغة الانسانية هي التي يهتم بمتابعتها القراء..وفي استطاعة أي صحفي ناجح أن يجمع العشرات من هذه القصص التي تصادفه كل يوم وفي كل مكان..وعلي كل صحفي أن يكون محررا في كل باب..فاذا صادفته جريمة أسرع إلي تحقيقها واذا رأي حادثا اهتم بتقصي تفاصيله..وعليه أن يعمل في باب المجتمع والوفيات اذا لزم الامر..فالمهم هو متابعة الاخبار والبحث وراءها بحيث يستكمل كل خبر يقدم إلي القارئ »..وكان ذلك أحد الدروس الصحفية التي أعطاها لي مصطفي بك خلال مشواري معه في» لست وحدك» لما يقرب من 13 عاما. رغم إن هذه اليوميات ليست الاولي لي ولكني أشكر الزميل والصديق والاخ الكاتب الصحفي خالد ميري علي استجابته لطلبي بتخصيص يوم محدد لي لكتابة »يوميات الاخبار» وتخصيص يوم الاثنين الاول من كل شهر لكتابة اليوميات..بالتنسيق مع الكبير أوي الاستاذ محمد درويش مدير التحرير دينامو المقالات واليوميات.