ولا يكف الفلاح الفصيح عن الشكوي، وتظل شكاواه التي أرسلها منذ أكثر من أربعة آلاف سنة تدوي في الآذان: أوقف السارق واحم الفقير الأحد: عندما تُبحر في بحيرة الحق فلتشرع سفينتك برياح ملائمة ولا يتمزق لك شراع، ولا تضل سفينتك ................ أنت الذي يقاوم الجشع، ويقيم العدل الذي يأتي لصيحتي التي يرددها فمي أنا ذا أتكلم.. فهل لك أن تسمع؟ ................. ما أشبه اليوم بالبارح، البعييييد، في الزمن القصي، منذ آلاف السنين، حين صاح »خن أنوب» بشكواه، إنه الجد الأعلي للحاج حمام، ذات السلالة، نفس الطينة الطيبة التي ترفض الظلم، وترفع صوتها طلباً للعدل، سلالة الفلاح الفصيح التي لم ينقطع سلسالها، رغم ادعاء البعض بالانتماء لها زوراً، ورغم مماحكة آخرين بهتاناً، ورغم محاولة من لا ينتمون ل »ملح الأرض» من قريب أو بعيد بالادعاء تارة، وبالإقحام تارة أخري، يتواصل السلسال، وتتصل حلقات السلسلة العريقة عبر العقود والحقب والأزمان. ................. في السطور الأولي بعض من الرسالة الأولي للفلاح الفصيح الأول ابن وادي الملح بالفيوم، الذي رأيته يتجسد مرة أخري في صورة »حمام علي» ابن قرية المراشدة بقنا، وربما كان الفلاح الفصيح محمود المليجي، أو محمد أبوسويلم في رواية عبدالرحمن الشرقاوي التي تحولت لشريط سينمائي بذات الاسم »الأرض» التجسيد الأدبي والفني في أروع تجلياته، لكن يبدو أن الواقع أحياناً يفوق في روعته مخيلة الأديب، والسيناريست والمخرج والممثل، حتي وإن كان عملاقاً بوزن المليجي. »الحاج حمام» كأنما انشق الأفق ليظهر بعفويته وطيبته وفطرته السليمة، لا يلوي علي شيء، مادام يعتقد في قرارة نفسه أنه صاحب حق، وأنه لسان آخرين ائتمنوه علي توصيل رسالتهم، فأدي الأمانة كما ينبغي له أن يؤديها. ربما لا يكون ثمة دليل علي أن شكاوي الفلاح الفصيح التسع، كتبها الفلاح المظلوم قبل أكثر من أربعة آلاف سنة، لكن المؤكد أن »حمام» هو من صاغ شكواه أمام الرئيس السيسي، وامتلك شجاعة العرض، تماماً كما امتلك ناصية الحديث والقدرة علي المواجهة والصراحة التي ربما أحرجت من هضموا حقه وحق أهله عبر ثلاثة عقود خلت، حتي واتته اللحظة المناسبة، فلم يدعها تفلت من بين يديه. ................. بين »خن أنوب» و»الحاج حمام» شهدت مصر أحداثاً وتحولات، وجرت تحت جسورها مياه كثيرة، تواري الفلاح الفصيح أحياناً، وبرز أحياناً أخري، لكنه أبداً لم يُواري الثري، ولم ينتحر، صحيح أن هناك من اختطف صوته، أو حاول التماهي في ثوبه، إلا أن السلالة ظلت صامدة. أتي حين من الدهر »لبس بعضهم مزيكا» وكان الجلباب والصديري والطاقية مجرد عدة شغل، ورأيت نماذج من هؤلاء، وسمعت عن آخرين من الثقاة، ثم فضح التاريخ زيفهم ليبقي الأصل دون خدش، ظل رونق الفلاح الفصيح في صورته النقية عصياً علي كل من حاولوا السطو علي بهاء وجمال الأصل. قبل نحو أربعة عقود شاهدت بعيني خارج القاعة من يرتدي »البدلة الشيك» لأراه داخلها ب »عِدَّة الشُّغُل»، فلاح في مظهره إلا أن جوهره خاوٍ، والزيف »يضفر» كلماته فلا تمس القلب، ولا تقترب من مداعبة أي عقل.! وتمر الأعوام تكر كرا، ويزور الرئيس مبارك قرية بالصعيد، ويلمح كوخاً لا يحيطه أي مظهر لحياة، يسعي نحوه، يطرق بابه، يخرج ساكنه، ليقول: انت جيت يا حبيبي، كنت أثق أنك ستأتي(!) تأخذ المفاجأة الرئيس وتعقد لسانه لبرهة، ثم يتجاذب أطراف الحديث مع الرجل، ويندهش مبارك حين يعلم أن صاحب الكوخ له مَظلمة، وأنه سافر أكثر من مرة قاصداً لقاءه، لكن هيهات، وعاد قافلاً إلي حيث هو، ويقينه أنه رغم عدم نجاحه في مسعاه، إلا أن الرئيس سوف يأتي إليه، وها هو بشحمه ولحمه وهيلمانه يجلس معه علي المسطبة يحتسي معه الشاي ! يُصدِّقُ من يشاء، وَيُكذِّبُ من يشاء الحكاية، وتمضي الأيام، ويغرب زمن مبارك ليسقط القناع عن الحكاية برمتها، وتكون الفضيحة المدوية: »فلاح الخُص» ليس إلا مخبر، والأمر لا يخرج عن كونه تمثيلية رديئة »خالت» علي الرئيس نفسه، والعهدة علي الراوي ! ................. ولا يكف الفلاح الفصيح عن الشكوي، وتظل شكاواه التي أرسلها منذ أكثر من أربعة آلاف سنة تدوي في الآذان: أوقف السارق واحم الفقير احذر اقتراب الأبدية وتمن لنفسك الثبات منِّ النفس تحقيق العدل عاقب من يستحق العقاب ولن يعادلك أحد في عدلك إن ميزان الأرض هو تحقيق العدل. سقوط الأقنعة الاثنين : .. ومازال الشادر منصوباً، ومازال العويل والصراخ واللطم متواصلاً، وهو الحاضر الغائب في المشهد د.سالم عبدالجليل، علي الفضائيات، والإنترنت، وصفحات الجرائد، لا صوت يعلو فوق ما أثاره عبدالجليل، ولأنه تراجع تكتيكياً، وفي أضيق الحدود، وظل علي رأيه الأصلي، فإن الأبواب مفتوحة علي مصارعها، ولا يوجد ذلك »الرشيد»، لم يتجسد رجلاً أصبح كالغول والعنقاء والخل الوفي، لتخرج النار من تحت الرماد، وتطاول ألسنتها عنان السماء ! ذات يوم، شاهدت د.سالم يتحدث بطلاقة، كان ساعتها يحتل الشاشة وحده، يسترق نظرة لأوراق أمامه، ثم يواصل كلامه، الحق أنني قلت لنفسي إنه داعية مجتهد، وسطي، أكثر الله من أمثاله. نقلت رأيي لزميل متخصص في حقل الصحافة الدينية، ابتسم ولم يعلق، وحينما استفسرت عن مغزي ابتسامته، قال: الأيام بيننا، لا تتعجل في أحكامك يا صديقي. ................. مرت شهور طويلة علي حواري المقتضب، وإذا بنفس الرجل ضيفا في برنامج يناقش ظاهرة الإلحاد، كان معه قس وشابان أحدهما مسلم والآخر مسيحي، لكن كلاهما يجاهر بإلحاده. كان المشهد صادماً لي؛ الأقل قدرة علي الحوار، ومقارعة ادعاءات الملحدين بالحجة المفحمة، والأكثر تقهقراً أمام هجومهما، كان للأسف د.عبدالجليل. تذكرت عندئذ نصيحة صديقي الذي طالبني بالتمهل في الحكم علي الرجل الذي كان البعض يتحمس له وزيراً للأوقاف، أو علي الأقل أن يكون ركناً ركيناً في عملية تطوير الخطاب الديني ! ................. توقفت عن اجترار الذكريات، وعدت لمتابعة ما يجري أمامي في أحد الشوادر الفضائية، والمذيع يحرص كلما هدأت النار قليلاً علي أن يصب فوقها مزيداً من الزيت لتتوهج، وفريق الإعداد لا يدخر جهداً في اقحام مداخلات تساهم في »شعللة» الحلقة، وكلما توهجت النيران، كان الأمر يستدعي فاصلاً إعلانياً طويلاً، فلا شك أن تقييم المعلن اللحظي أن ما يدور يجعل البرنامج وهذه الحلقة بالذات بين الحلقات الأكثر مشاهدة في هذه الليلة الليلاء ! ................. طال الفاصل الإعلاني، وعدت لذكرياتي. في مدينتي الصغيرة فتحت عينيَّ علي زيجات مختلطة، كان الأب مسلماً، وكانت الأم مسيحية، وكان الأبناء يرتادون المساجد ويصومون رمضان، وكانت هذه الأسر جزءا من النسيج العام في محيطها. وأمام شريط الذكريات توقفت متأملاً لإحدي تلك الأسر، وكان الزوج ينتمي لعائلة متدينة ميسورة، يسبق أسماء أبنائها لقب »الحاج»، والزوج نفسه كان حاجاً، إلي هنا والحكاية عادية للغاية بمعايير ذاك الزمان غير أن المثير أنه كان لهذه الأسرة ولد وحيد مدلل، وكان صراخه يطاول عنان السماء كل رمضان لعدة سنوات، فما السر يا تُري؟. والدته المسيحية كانت تضربه لأنه وصل إلي السن التي يجب أن يصوم عندها، لكنه كان يغافلها ويُفطر، تنصحه، ترجوه، تهدده بإبلاغ أبيه، إلا أنه لا يجد فرصة للأكل أو الشرب، إلا واغتنمها، فلا تجد مفراً من عقابه بشدة ليصوم. قصة أهديها إلي كل »سالم» وكل »عبدالجليل»، ربما يكون فيها من العظة ما يدعوهم لمراجعة أفكارهم التي ليست من الدين في شيء. ................. أدعو جميع »السوالم» ممن علي شاكلة د.عبدالجليل إلي التدبر لحظة في حكمة زواج المسلم من كتابية، يعني أن تكون الأم مسيحية مثلاً، فهي مؤتمنة علي تربية وتنشئة أبناء الزوج المسلم دون غضاضة أو تخوين، أو هواجس من أي نوع. فهل استثني النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) تلك الأم من حديثه الشريف: »الجنة تحت أقدام الأمهات»؟! ولماذا شرع سبحانه وتعالي زواج المسلم من بنات أهل الكتاب بينما حرَّم ذلك من الكافرات؟! بعد الاجابة عن هذا السؤال ، هل يجترئ أي من »السوالم» بإجابة تتسق مع فتوي عبدالجليل بأن المسيحيين كفار سيدخلون جهنم ؟ لا أظن. ................. أفقت علي صوت المذيع »المشعللاتي» مرة أخري، وواصلت متابعة برنامج سقطت فيه الأقنعة دون أدني حياء! غش بنكهة الموت! الثلاثاء: بوريك بالعجوة.. بوريك بالجبنة قرب قرب.. بوريك بلحمة »بسة» هكذا كان البائع ينادي علي بضاعته، ولا يطول نداؤه، وسرعان ما ينفد كل ما في جعبته، فينصرف ليعود في اليوم التالي، بنفس النداء، ليواجه الإقبال ذاته من زبائنه. وتمضي الأيام ليكتشف الناس أنهم كانوا يلتهمون بالفعل لحم القطط، ويُقدم البائع للمحاكمة، لكنه يخرج منها كالشعرة من العجين ! الادعاء قدم البائع متهماً بالغش التجاري، والدفاع طلب شهادة العشرات من الضحايا، ولم يسأل أيا منهم سوي سؤال واحد: هل كان ينادي علي بضاعته بأنها بوريك بلحمة بسة؟ وبالطبع كانت الإجابة موحدة بنعم. وهنا صاح المحامي البارع: وهكذا أيها السادة فإن موكلي لم يغش الزبائن، لأنه أفصح عن طبيعة بضاعته، وهم قبلوا الشراء، لذا فإني أطلب له البراءة، وقد كان ! ................. حدثت هذه الواقعة قبل نحو نصف قرن، واستمعت لها عندما بدأت عملي في »أخبار اليوم» عام 80 من القرن الماضي، لأن مسرح الحدث كان منطقة الترجمان التي تحتضن الدار، وكان أساتذتنا يرددونها علي مسامعنا للتدليل علي خطورة أن يمزج صاحب أي بضاعة ولو كانت رأياً الصدق بالكذب، أو يجعل مما قد يبدو دعابة مدخلاً للخداع، تحت لافتة: »القانون لا يحمي المغفلين».! يدور الزمن دورته ويطال الغش كل شيء! الأطعمة، الأدوية، الأجهزة، الكلمة، نعم حتي الكلمة أصبحت سلعة قابلة للغش، لا يقتصر الأمر علي الصحف الصفراء كما كان يحدث في زمن غابر، لكن عبر منابر ومنصات كان يصعب تصديق انخراطها في الغش ! لا يكاد يمر يوم دون الكشف عن قضية غش؛ لعل أخطرها ما يتعلق بالدواء ! غش في المادة الفعالة، أو في تاريخ الصلاحية، في الحالة الأولي يكون المُصنِّع أو المستورد هو المجرم، وفي الحالة الثانية يتواطأ أكثر من طرف، لكن المثير حقاً دفاع بعض الشركات والصيدليات عن استمرار عرض ما انتهي صلاحيته من دواء، وتقف الأجهزة المعنية مكتوفة الأيدي أمام ما يهدد صحة بل حياة الملايين بالخطر ! مطاعم شهيرة، وسلاسل محلات كبيرة تشارك في المهزلة المميته بعرض أطعمة مغشوشة؛ لحم حمير، وأجبان مسمومة، معلبات غير صالحة للاستهلاك الآدمي و... و... الأخطر؛ أن المسألة لم تستثن أطعمة وألبان الأطفال دون أدني وازع من ضمير، وفي غيبة الرقابة التي أصبحت - في أحيانٍ كثيرة - كالزوج المغفل آخر من يعلم ! أصبحت أخبار النهايات المأساوية الناجمة عن موت شخص أو أسرة، أو تسمم تلاميذ أو عدة مدارس في مدينة أو محافظة، خبراً لا يهتز له أحد، خبر عادي جداً في ظل عمليات غش بنكهة الموت وطعمه المرير في أفواه الضحايا وأسرهم ! ................. تجمعني الصدفة بمن وقع هو أو فرد من أسرته ضحية للغش، فيكون مبرره بخلاف أنه ابتاع من محل لا تحيط به شبهة،إنه السعر المغري. ومع ارتفاع الأسعار وصعوبة الأحوال المعيشية، يتغاضي الناس عن التدقيق في مصدر السلعة أو تاريخ صلاحيتها، أو تواضع تغليفها، بمنطق: حاجة تفرح الأولاد، غير أن الحقيقة المُرَّة، أنها قد تقتلهم أو تسبب لهم أمراضاً مزمنة ! أعود بذاكرتي إلي حكاية لحمة بسة التي مضي علي وقوعها عقود، وعلي استماعي لها زمن طويل، فأجد بطلها ملاكاً إلي جانب من يحصدون ببضاعتهم المغشوشة آلاف الأرواح بالموت السريع أو البطيء، علي الأقل فإن البائع في الحكاية القديمة لم يخف حقيقة بضاعته،ويكفي أنه كما يتندر صديقي خفيف الظل قائلاً: ألا يغفر له أنه كان ينظف القطط بالشامبو قبل ذبحها؟! ويكون ردي دائماً: يا سيدي.. من غشنا فليس منا، أو كما قال. ومضات من لا يحلُم لا يصنع مستقبلاً. الحاضر قد يكون ابن الماضي، لكن الغد ابن الخيال. الثقة بالنفس أول خطوة للثقة بالآخر. قبل أن تُبدع في التعامل مع غيرك، تصالح مع نفسك. حتي في الإبداع هناك سقف، وإن طاول عنان السماء. أحياناً يكون في التريُّض، ترويض لرغبة جامحة.