في حوار له مع جريدة الأخبار قبل أقل من أسبوعين، أكد الطبيب النفسي الكبير د.أحمد عكاشة أن ثورة 25 يناير ستخفض عدد المرضي النفسيين في مصر إلي النصف.. وجاء قرار حل جهاز أمن الدولة ليؤكد أن نبوءة الطبيب النفسي الكبير ستتحقق، ذلك لأن هذا الجهاز بشهادة أطباء مستشفي الصحة النفسية بالعباسية هو المفرخة الرئيسية لإنتاج المرضي النفسيين بمصر. حكايات كثيرة رواها أطباء المستشفي عن ما كان يفعله هذا الجهاز في أبناء مصر ليحولهم من مشروع رجال نافعين لمجتمعهم إلي مرضي نفسيين، والذي يتعجب له الأطباء أن هؤلاء لا ناقة لهم في السياسة ولا جمل. نبتدي منين الحكاية.. من المهندس المشهور الذي أصيب بمرض " الانفصام " أم من طالب الجامعة الذي حولوه لشخص من الذين ترونهم يهيمون علي وجوههم في الشارع، أم من موظف المحكمة الذي وقف أحد ضباطهم حائلا بينه وبين الحصول علي حقه، فطلب مساندة سوزان مبارك فاتهموه بالجنون، أم من مواطن حرموه من حقه في الحياة والتمتع بإرث والده لصالح أحد ضباطهم، أم من المحامي الذي طالب بحقه في الترقي، فلفقت لهم تهم المشاركة في التظاهرات. الحكايات كلها مؤثرة، وتشعر عند سماعها انه لم يكن جهازا لأمن الدولة، بل، كان كما كتب الأستاذ سليمان قناوي في مقال له بجريدة الأخبار " جهاز رعب الدولة ". هذا الرعب، الذي أشار إليه الأستاذ سلمان في مقاله، هو الذي تسبب في فقدان الإحساس بالأمان، الذي يأتي - كما يقول د.حسام صبري طبيب الأمراض النفسية والعصبية بمستشفي الصحة النفسية بالعباسية، في مقدمة الهرم النفسي، وهو إحساس شعر به المصريون بشكل عام، لكنه زاد بمعدلات مرضية عند أولئك الذين زارهم زوار الفجر. حاولنا الاقتراب من بعض أولئك الذين قادهم زوار الفجر إلي مستشفي الصحة النفسية بالعباسية، لكن الدكتور صبري، اعتذر عن تلبية رغبتنا حفاظا علي خصوصية المريض، لكنه وزملاءه بالمستشفي تطوعوا بنقل هذه القصص عنهم، مع الاحتفاظ بسرية اسم المريض. فمن بين الحالات التي ذكرها الدكتور صبري كانت لمحام، تم تخطيه في الترقية بالمصلحة التي كان يعمل بها، وكان نتيجة ذلك أن هذا الشخص أصبح ناقما علي المجتمع، وقاده هذا الشعور للاشتراك في أي مظاهرة، وصنفه بسبب ذلك جهاز أمن الدولة علي أنه من الناشطين سياسيا، وأودي به إلي المعتقل، ومنه خرج مريضا نفسيا. وفي العنبر 58 بالمستشفي، وهو العنبر الذي يستقبل المشردين الذين يتم تجميعهم من الشوارع عند زيارة شخصية هامة لمصر، يحكي د.صبري قصة شاب كان نزيلا عليه أثناء زيارة أوباما لمصر. ويقول: " هذا الشاب كان يبدو من حديثة انه علي درجة من التعليم والثقافة، مما أثار تعجبنا كيف آل به المصير إلي الشارع ". وكان خلف هذه المأساة جهاز أمن الدولة، الذي أعتقله أثناء مشاركته في مظاهرة بالجامعة، وتم الإفراج عنه، لكنه ما أن عاد إلي بيته حتي أعتقل مرة أخري، وظل هكذا كلما يخرج من المعتقل ويعود إلي بيته يعتقل، ففقد هذا الشاب الثقة في أهله وفي محيط سكنه وظن أنهم مسئولون عن إبلاغ الأمن عنه، فقرر الإقامة بالشارع. وحاول موظف في المحكمة مقاومة خططهم، وقطع شوطا كبيرا في المقاومة، لكن في النهاية خارت قواه وأصبح نزيلا بالمستشفي. قصة هذا الموظف، كما يحكيها د.صبري انه أضطر تحت تهديد السلاح إلي التوقيع علي أوراق بيع إحدي ممتلكاته، واستطاع إثبات ذلك أمام المحكمة، فحكمت له باسترداد ممتلكاته، غير ان خصمه قام بالاستئناف، واستطاع بمساعدة أحد أقاربه بجهاز أمن الدولة سحب ورقة من ملف القضية أثرت علي موقفة في القضية. وأضطر هذا الرجل إلي احتلال مدرسة بأحد الأحياء الراقية، حيث دخل فناءها قبل طابور الصباح ووقف في وسطه وبيده مسدس مهددا بقتل كل من في المدرسة ووضع هذا الرجل أمامه لافتة مكتوب عليها " نداء إلي السيدة سوزان مبارك " ، وبعد ان تمكن الضباط من القبض عليه، تم إحالته لقسم الطب الشرعي بالمستشفي للتأكد من قواه العقلية. أفشل جهاز هذه الحالات التي حولها جهاز أمن الدولة من أشخاص عاديين إلي مرضي نفسيين، كانوا من الضعف بحيث لم يستطيعوا تحمل الضغوط النفسية، فآلوا إلي هذا المصير. لكن، ماذا عن القادرين علي تحمل الضغوط؟ يفرق د.صبري بين صنفين من ضحايا جهاز أمن الدولة، الأول أشخاص عندهم مبدأ يدافعون عنه، وهم ذوو الاتجاهات السياسية الذين يتم القبض عليهم، وهؤلاء يزيدهم تعذيب أمن الدولة صلابة ويخرجون أقوي من ذي قبل. أما الصنف الثاني، فهم أشخاص لا ناقة لهم ولا جمل، بعضهم لا يتحمل الضغوط فيصبح مآله إلي مستشفي الأمراض النفسية، والبعض الآخر من الذين لديهم المقدرة علي تحمل الضغوط يتحولون من أشخاص بلا قضية إلي أشخاص لديهم قضية، وقد تكون هذه القضية سلبية مثل تكفير المجتمع الذي أودي بهم لهذا المصير. ويقول د.صبري: " يعني الناشطين الذين هم الهدف الرئيسي للجهاز أصبحوا أكثر قوة.. والصنف الثاني تحول بعضهم ممن تحمل الضغوط النفسية إلي شخص يملك قضية، بعد أن كان يعيش بلا قضية ". ويتساءل: " أليس هذا الجهاز إذن هو أفشل جهاز علي وجه الأرض، حيث انه لم يحقق هدفه، بل وزاد عليه أشخاص آخرون أدخلهم في بؤرة الاهتمام بالحياة السياسية دون قصد. الانفصام والهلاوس مآسي هذا الجهاز لا تتوقف عند الحكايات التي يحتفظ بها د.صبري، فالدكتور سامح إبراهيم نائب إداري المستشفي يحتفظ بعدد لا بأس به، ويقول د.سامح: " كثير من مرضي الهلاوس هم من نزلاء معتقلات أمن الدولة ". وتتسبب العزلة التي يعيشون فيها لفترة طويلة بالمعتقلات في إصابتهم بهذا المرض، الذي ينتج عن أنهم ينفصلون لفترة طويلة عن المؤثرات الخارجية، فيتخيلون أنهم يسمعون أصواتا غريبة، أو ان هناك أشخاصا تراقبهم. ويمكن ذ أيضا ذ ان يصل المريض لهذه الحالة دون ان يدخل المعتقل إذا كان ضعيفا لدرجة كبيرة في مواجهة الضغوط. ويتذكر د.سامح في هذا الإطار رجل أعمال كان ضحية هو الآخر لممارسات جهاز أمن الدولة. مشكلة هذا الرجل أنه كان يقيم في منطقة يسكن بها أحد قادة الجهاز، فأختلف معه خلافا بسيطا كالذي يحدث بين الجيران، فما كان منه إلا أن قام بكسر سيارته، واستخدم بعض ضباطه في التضييق عليه في أعماله، حتي شعر الرجل أنه مراقب في كل خطواته، فأصيب بداء الهلوسة، الذي كان من أعراضه تخيل أن كل الناس تراقبه. ضحايا الفساد قصة هذا المهندس تكررت بشكل آخر مع شاب دخل المستشفي، ورفض شقيقه الذي كان ضابطا في أمن الدولة خروجه. وتحكي د.حنان غديري رئيس وحدة التأهيل بالمستشفي قصة هذا الشاب، الذي دخل يعاني من اضطرابات نفسية خفيفة، وشفي منها، وعندما طلبنا إخراجه رفض شقيقه لأنه كان قد قام برفع قضية حجر عليه ليكون وصيا علي ميراثه. وتستطرد د.حنان: ولم يكتف بذلك بل قام بسحب بطاقة شقيقه الشخصية من ملفه بالمستشفي بطريقة غير مشروعة حتي لا يستطيع الخروج، وكلما حاولنا استخراج بطاقة بدل فاقد له، كان يتابع تحركاتنا ويفشل أي محاولة لذلك بواسطة علاقاته، حتي اضطررنا إلي استخراجها له من مكتب أحوال مدنية بإحدي محافظات الإقليم. وتقود هذه القصة د.حنان إلي القول ان ثورة 25 يناير لم تسقط جهاز أمن الدولة فقط، لكنها ستقضي - أيضا - علي الفساد في الجهاز الإداري للدولة الذي تسبب في تعطيل محاولات استخراج البطاقة الشخصية للمريض. وتشير د.سلوي فرج نائب مدير المستشفي إلي مظهر آخر من مظاهر الفساد وهو "البطالة" و " الواسطة " الذي تتوقع ان تقضي الثورة عليه. وتقول: " نسبة لا بأس بها من النزلاء من الشباب، والسبب " البطالة " و"الواسطة" التي تجعل فرص العمل تؤول لمن هم أقل منهم كفاءة " . وتعتبر د.سلوي الظلم الذي يتعرض له هذا الشباب أكبر بكثير من ذلك الذي يتعرض له المعتقلون في أمن الدولة، لأن شابا بلا فرصة عمل، يعني حياة بدون هدف. ويلتقط د. محمد سامي الطبيب بالمستشفي من بين كل هذه القصص ملحوظة هامة وهي أنها لا تفرق بين مهندس ومحام ورجل عادي، أي أن الكل معرض للضغوط النفسية التي تؤدي به للمرض النفسي. وكما نجحت الثورة في تغيير كثير من المفاهيم، حتي بتنا نتعامل مع كلمة " الإخوان المسلمون " بمنطق مختلف، وأصبحنا نري رموزها في كل وسائل الإعلام بحرية، فإني أتوقع أن تتغير النظرة - أيضا - إلي المريض النفسي. فالمريض النفسي - كما يؤكد د.سامي، هو شخص عادي لم يقدر علي تحمل الضغوط النفسية التي نتعرض لها جميعا. قمة الهرم النفسي وإذا كنا جميعا كنا نعيش تحت ضغوط نفسية، كما يقول د.سامي، فكيف إذن نجح شباب ثورة 25 يناير في القيام بثورتهم في هذا المناخ؟ أطباء المستشفي أجمعوا علي أن شباب 25 يناير تجاوزا مقدمة الهرم النفسي إلي قمة الهرم، وهي القدرة علي الإبداع والتأثير في الآخرين. وصول هؤلاء الشباب لهذه القمة في ظل المناخ الذي كانت تعيشه مصر، يفسره الأطباء بقاعدة التباين بين البشر في التعامل مع الضغوط النفسية. ويشرح د.حسام صبري ذلك بالفرق بين لاعبين تعرضا لخشونة في الملعب، أحدهما يشغل باله بالانتقام من اللاعب الذي أصابه، والآخر يركز في انتقام من نوع آخر وهو إحراز هدف. وقياسا علي هذا المثل يقول: " شباب مصر اختاروا طريق إحراز الأهداف".