مثلما كنتِ تفعلين في حياتك لم تتأخري عني لحظة بعد مماتك وكالعادة جاء الحل من عندك أنتِ، وهذا شيء ليس غريبا عنكِ فعند كل مشكلة يندد الجميع وعند كل ملمة يتحدث الجميع وعند كل حادث يستنكر الجميع وعند كل أزمة يشجب الجميع وعند كل ضائقة يتعاطف الجميع، لكنك وحدك لا تتعاطفين ولا تشجبين ولا تستنكرين ولا تتحدثين ولا تنددين فهي لغات مهجورة بالنسبة لكِ ولا يوجد لمفرداتها وجود في قاموسك، الكل يتحدث وأنتِ الوحيدة التي تفعل، تلك هي اللغة الوحيدة التي تجيدينها، هكذا كنتِ في حياتك وهكذا أصبحتي بعد رحيلك، كنتُ أظنكِ قد ابتعدتِ ونسيتني ولكن وياللعجب وعند أول مشكلة تصادفني بعد رحيلك وجدتكِ حاضرة فعلا لا قولا ووصلني منك ما جعلني أشعر بالسعادة للمرة الاولي منذ أن فارقتِ يا أمي دنيانا ليس للقيمة المادية لهديتك التي أرسلتها لي ولكن لقيمتها المعنوية التي حملت رسالة واضحة المعالم تقولين لي فيها قولتك المأثورة: ماتقلقش يا ولدي ربنا حيفرجها، تلك العبارة السحرية التي لم تتوقف لحظة عن لسانك بل عن قلبك، فكثير منا ينطقها بلسانه كمجرد تسرية عن الروح عند الأزمة دون انتظار لترجمتها لواقع عملي، لكنك الوحيدة التي كانت تخرج تلك العبارة من قلبها متيقنة من حقيقتها ومن سرعة تلبية الله لفك الكرب، وعندما كنتِ تلمحين نظرة تساؤل في عيني عن الكيفية التي يمكن عن طريقها تفريج الأزمة والأسباب كلها لا تنبئ بفرج قريب كنتِ تجيبين في ثقة: ربك مش محتاج أسباب يا ولدي علشان يفرجها ثم تبتسمين ابتسامتك الجميلة وأنتِ تقولين: ثم مين عارف مش يمكن ربنا يقدرني وأكون أنا سبب لسعادتك وفك كربك؟. لم أكن أفهم في بداية الأمر معني كلامك ولا كيف يمكن أن يجعلك الله سببا في فك الأزمة ولكن كنت في خلال يوم أو يومين علي الأكثر أري وجهك متهللا مستبشرا ولسانك ناطقا بفرحة طفل بريء وأنتِ تضعين في يدي مظروفا وتقولين لي والسعادة تملأ ملامحك: خد دول فك زنقتك مش قلتلك ربنا فرجه قريب؟ وفي هذه اللحظة أنظر إلي معصميكِ لأكتشف أنك قد ضحيتِ ب»غوايشك» لفك زنقة ابنك الحبيب، كم هي كثيرة تلك المرات التي قلت لكِ فيها مستنكرا: تاني يامه بعتي دهبك علشاني؟ إزاي أم هشام بنت الحسب والنسب تقعد بدون غوايش ولا حتي حلق في أذنيها؟ فكنتِ تضحكين وأنتِ تطيبين خاطري قائلة: الحسب والنسب مش دهب ولا فلوس يا ولدي، وهكذا يا امي لم تبخلي علي أحد منا يمر بأزمة في حياتك بالذهب وإذا حاولنا أنا وشقيقاتي إثناءك عن نيتك واقناعك بالعدول عن قرارك والحفاظ علي ذهبك الغالي عليكِ كنتِ تقولين في رضاء تام وعن طيب خاطر: الغالي يرخص لكم يا ولاد، ربنا يبارك لي في ابوكم ويجيب لي غيره، الدهب ملوش لازمة لو مكانش نستفيد منه في أي أزمة، وهكذا لم تكوني تتحملين أن يمر علي أحدنا في ضائقته أكثر من ثمان وأربعين ساعة تكونين قد أوجدتِ الحل فالأمر عندك سهل جدا لا يحتاج تشكيل لجنة للدراسة واخري للمراجعة وثالثة لإعادة النظر فالأمر كان دائما عندك أسهل من أن يتخيله أحد حيث تتخذين قرار التضحية بأي غال لديكِ لتوفري لنا ما نحتاجه! ولأنكِ لم تتأخري عن الوقوف بجانبي طوال حياتك كان من الطبيعي أن تفعلي بعد رحيلك ولأنك كنتِ الحقيقة الصادقة في حياتك لم تتأخري لحظة عندما عرفتِ أن ابنك في أزمة، الآن فقط يا أمي صدقت أن الموتي يشعرون ويسمعون كأنهم يعيشون بيننا، الآن آمنت أن الله عز وجل يرزق مرتبة الشهداء لمن يطلبها بصدق حتي وإن مات علي فراشه مثلك، ولأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون كنتُ علي ثقة أنك قد عرفتِ بحادث السرقة الذي تعرضت له مؤخرا ونجم عنه خطف موبايلي من يدي في الشارع وكعادتك لم تضيعي الوقت في الكلام بل جاء رد فعلك بأسرع مما توقعت وقبل حتي مرور يومين علي الأزمة، كنت أبتسم عندما وقعت السرقة قائلا لنفسي: لو كانت أمي عايشة كان زمانها باعتلي غويشة ولا اتنين علشان تشتريلي موبايل جديد.. فجاءني من عندك آخر ما كنت أتوقع، موبايل بديل للمسروق، ليس في لأمر سحر ولا شعوذة لاسمح الله، ولكني فوجئت بشقيقاتي يرسلن لي موبايلك الذي تركته، ياه يا أمي ألهذه الدرجة تشعرين بي؟ لا تتصوري شعوري لحظة أن وصلني موبايلك الغالي، هل أستحق كل هذا التكريم يا رب؟ هل فعلت لأمي ما يجعلني مستحقا لأن أضم بين أصابعي تلك القطعة الحديدية التي كانت تلامس أصابعها قبيل رحيلها؟ ياما انت كريم يا رب. لم أتمالك يا أمي نفسي عندما فتحت الموبايل لأجدك قد وضعتِ في خلفيته صورة كانت تجمعنا معا وأنتِ علي فراشك الأخير تبتسمين وقد وضعتِ يدك في يدي وتتشبثين بي بفرحة غامرة وكأنما قد حيزت لكِ الدنيا وما فيها وعلي الرغم من أن دموعي لم تتوقف منذ رحيلك إلا أن موبايلك يا أمي نجح في أن يعيد لي ابتسامة كانت قد غابت عني ليست ابتسامة من فقد شيئا فعوضه الله بأحسن منه، ولكنها ابتسامة المطمئن علي وجود امه معه حتي بعد رحيلها فيجدها عند أول أزمة ترسل له رسالة قصيرة من كلمتين تقول فيها: لا تحزن، صدقتِ يا أمي فكيف يحزن من كانت له أم مثلك؟!