استعيد بعض هذه المشاهد البعيدة، وقد فرضت نفسها علي واقعنا اليوم لتصوغه أو تشكل منه ملامح المستقبل الذي يخشاه الكثير منا اليوم، لعله المجهول الذي اندفعت إليه ثورة الشعب بقوة، كانت بحجم تلك القوة المكبوتة بداخله منذ عقود، فأصبح المد ولا أحد يستطيع ايقافه، ولم يكن من قبيل الخيال ان يسقط القناع كاملا عن وجه النظام الذي حكم مصر بمنطق القول يخالف الفعل، وظهر ابطال المرحلة جميعا وكأنهم يحاكون هذه النظرية، ان يقولوا ما لا يفعلون، وان يدفعوا امام الناس بكل المبررات التي تجعلهم يصدقون الاقوال، وينكرون كل ما يشكك فيها، ثم لا يصدقون الافعال المناقضة أو المؤكدة ان هذه الاقوال بهتان وزور. فلقد تسلم الرئيس السابق الحكم بمنطق التوريث فعلا من حاكم مستبد الي حاكم كان يعمل نائبا له من نفس الفصيل، ليس له اية مميزات إلا باشتراكه في حرب اكتوبر وقيادته للقوات الجوية، وكان هناك عشرات القادة الاجدر والافضل والاعظم دورا في المعركة التي اعادت لمصر الكرامة حقا، فالجمسي واحمد اسماعيل، وسعد الدين الشاذلي وغيرهم، جميعهم كان لهم فضل عظيم وسيرة طيبة تؤهلهم لتحمل المسئولية، طالما ان القضية انتقال تلقائي للسلطة عبر المؤسسة العسكرية منذ الرئاسة الأولي لمحمد نجيب، وحدثت الواقعة المروعة لمقتل السادات وانتقل الأمر الي مبارك بنفس الطريقة التي يتم فيها تسديد الاصوات في الاستفتاء، وإن كان الشعب في لحظة اغتيال السادات كان يريد الامساك بأي قشة تنجيه من المجهول الذي كان في انتظاره، وقدر الله فجاء المجهول بنظام، آفته المظهر والترويج له بعيدا عن جوهر الاشياء وحقيقتها، لكي تكتمل الملامح الغائمة لنظام وعد رئيسه في أول تصريحات له بأنه لن يبقي في هذا المنصب أكثر من مرتين، وانه في حديث لاحدي القنوات المصرية قال إن اكثر ما كان يطمح إليه ان يذهب سفيرا لمصر باحدي الدول الهادئة لكي يستريح من عناء الحياة، ولكن الطبع الذي يجري في العروق غلب التطبع الذي قال به الرئيس السابق وقتها، وأصبح علاقته بالكرسي حميمية لدرجة عدم القدرة عن الاستغناء عنه والوفاء بعهده الذي قطعه علي نفسه أمام الشعب. واستمرت هذه الظاهرة لتتبدل في اليقين فكرة نقل السلطة بدلا من وريث عسكري الي وريث مدني له ما يشبه التأثير القاهر علي وجدان الرئيس السابق، ويكون المبرر ان الوريث هذا سيكون اول مدني يجلس علي كرسي الرئاسة وكان ذلك غير خاف علي الشعب، ولماذا لا يكون هو الوريث الشرعي للاب، فالابن هو الامتداد الاولي وهو القادر في المرحلة المقبلة علي حماية سيرة الاب، وانجازاته التي لاشك شابها من حكمة القول المناقض للافعال الكثير، فالاسد الابن وهو الطبيب قد ورث بالفعل اباه ودانت له سوريا بكل ما تملك من كفاءات ومواهب، كانت احق بالرئاسة منه واقدر عليها، ولكن حدث بالفعل وتحقق التوريث بشكل أو بآخر، فلماذا لا تسير مصر علي نفس النهج، خاصة ان الشعب قد اعتاد علي تصديق الاقوال دون الافعال، ويمكن له ان ينسي بسهولة ويسر تصريحات مبارك الاب المتكررة والمتخذة اشكالا متغيرة بأنه ليس هناك نية لتوريث الحكم وان الخدعة البسيطة للمقولة الشهيرة »ابني يساعدني« لن تضر ومن تلك اللحظة الفارقة التي تحولت الكلمات فيها الي معاني تجرح كبرياء النخب والشعب معا، وما فعل الوريث المنتظر منذ مطلع الالفية الثالثة واستطاع ان يجمع حوله شرار المصريين من كل من لديه شره للمال والسلطة معا، مجموعة تمهد وبشكل مستفز لقصر الثروة عليهم واقامة سياج غير مسبوق من حولهم وحول زعيمهم الذي تقل قدراته عنهم بكثير ولكن يبدو انهم كانوا يرسمون له طريق السيطرة الجديد، وانه استخدم ايضا نفس الوسائل لاشاعة النوايا الحسنة في التوجه نحو الاصلاح والمصارحة والمكاشفة، والاقوال فقط هي الوسيلة الاسهل مع شعب تصور الوريث وشلله بأنه ساذج سيبلع الطعم بدون اية مقاومة، لقد استخدم الشعارات القديمة »العدالة الاجتماعية« بعد عشر سنوات من حكمه الخفي، راح يبحث عن القري الاكثر فقرا ولم يخجل بأنه هو والنظام والاتباع والمنافقون والمرجفون من ورائهم كانوا السبب المباشر في حالة الفقر المدقع تلك، وهم الذين اوصلوا البلاد الي الطريق المسدود سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، لان النظام اضحي في غمضة عين ليس له هم إلا تمرير التوريث حتي ولو بمخططات تضر بمصالح الوطن العليا وتفتك بطبقات الشعب، بل ويمكن الاستغناء عنه جميعا.. كان تصورا مليئا بالانانية والنرجسية، مبدؤه الكذب واستخدام آلة الإعلام في تضليل الشعب وقلب الحقائق. ولذلك لم يكن هناك مؤسسات تمارس دورها الحقيقي والعملي إلا وحاكت بها مؤامرات هذه الطغمة من حول الوريث المنتظر، وفي الصورة كان مبارك الاب يؤكد انه يحترم استقلال القضاء وكان في الخلفية من يعبث ويحاول التدخل في القضاء بشكل او بآخر، وكان يقف ليخاطب الشعب بأنه ينحاز لمحدودي الدخل، وفي الخلفية كان الوريث يكرس حصر الثروة ورأس المال والحكم في فئة بعينها لم يبذلوا شيئا يذكر في سبيل ما كونوا من ثروات وما وصلوا إليه من مناصب تتحكم في ثروات الوطن ومستقبله، وكان الفقراء يزدادون فقرا والمرضي يزدادون مرضا والجهلة يزدادون جهلا، وكان يقف ليقول للناس انني حامي حمي الديمقراطية ثم نري في الخلفية ما يندي له جبين الشرفاء من تزوير سافر لارادة الشعب وعبث غير متخيل بمقدراتهم، وذلك بأحط الوسائل التي كانت شبيهة بيوم موقعة »الجمل« في ميدان التحرير، اذن لم يكن هناك نظام حقيقي يعمل من بعيد أو قريب لمصلحة شعبه، بل كان هناك عصبة من أناس مرضي تخيلوا ان هذا الشعب قد فقد القدرة علي الثورة كما أنهم بعد هزيمتهم وانتكاستهم يتخيلون الآن ان الشعب غير قادر علي ايجاد طريقه للمستقبل، وهم إن يظنون وهم في خيالهم المريض يعمهون.