لم يعد التحرير ميدانا، بل صار مزارا عالميا، لم يعد مكانا، إنما صار رمزا في المكان والزمان معا، أعاد المصريون بأصالتهم وحضارتهم وثقافتهم العميقة اكتشاف دلالاته ومعانيه، خلال تدفقهم اليه، سواء في احداث الثورة او فيما بعدها، وسيظل في المستقبل رمزا لما جري فيه، سواء قبل ثورة يناير، بما شهده من احداث استثنائية، مثل جنازة الشهيد عبدالمنعم رياض، او جنازة جمال عبدالناصر الاسطورية والتي لم تنطلق منه انما مرت به في مسارها من مجلس قيادة الثورة الي مثواه بكوبري القبة، ثم اعتصام الطلبة في ثورتهم ضد السادات خلال السبعينيات وصولا الي الخامس والعشرين من يناير. سيصبح ميدان التحرير رمزا عالميا للثورة، ولعله سيتجاوز ميادين شهيرة في العالم ، مثل الكونكورد خلال الثورة الفرنسية، ولكن ميدان التحرير لم يعرف حوادث اعدامات لأعداء الثورة او قطع رؤوس الملك والملكة والاثرياء الفاسدين. لم يعرف الدماء التي تسيل من المفاصل المعروفة بالجيلوتين والتي تهوي لتفصل الرؤوس عن الاجساد، انما عرف دماء الشهداء الذين تلقوا رصاص النظام الفاسد بصدورهم، ثوار مصر في التحرير لم يسفكوا دما ولكن سالت دماؤهم، حدثتني صحفية المانية عن الرجفة التي تمر بها كلما تذكرت مشهدا مؤثرا لتماسك مجموعة من الشباب في مواجهة هجوم الامن المركزي المدعوم بالرصاص المطاطي ثم الحي. صور اسطورية كل منها يصلح ايقونة لثورة كاملة. سيتجاوز ميدان التحرير ما شاهدناه في الميدان السماوي بالصين، الصورة التي اصبحت من معالم القرن الماضي، شاب صيني يقف في مواجهة دبابة تتحرك محاولة التقدم بينما يناورها هو، صورة تخلو من العنف، لكن معناها عميق، اصبحت جزءا من ذاكرة الانسانية وهذا ما أتمناه لميدان التحرير، العالم يعرف الميدان الآن، وما من شخصية هامة أو غير هامة تنزل ارض مصر الا وتتجه الي الميدان. بالتأكيد سيدخل الميدان الي ذاكرة الانسانية خاصة بخصوصية ما جري فيه، ثورة الشباب التي استنفرت كل القيم الحضارية والانسانية والسمات المصرية التي اختفت لسنوات طويلة بتأثير الاكتئاب الاجتماعي والجماعي، والسياسة المتعمدة لإغراق الناس في هموم يومية صغيرة. عادت السخرية المصرية الراقية وما تزال توابعها تتوالي علي صفحات الانترنت. ولكم ضحكت من القلب علي السخرية البديعة من الراجل اللي واقف وراء عمر سليمان، مع انني اعرف تفاصيل الوقفة التي كان يجبر فيها نائب الرئيس علي تلاوة البيان من ممر صغير في وزارة الدفاع، كذلك ما تناقله المدونون عن »بلوفر« رئيس الوزراء. في ميدان التحرير ظهر اجمل مافي المصريين، لعلها الثورة الوحيدة في العالم التي يذهب فيها الآباء الي دوائر الخطر وهم يحملون ابناءهم الرضع، اسر كاملة اقامت اكثر من اسبوعين، أي طاقة، أي روح تفجرت، فاق الامر كل خيال، وكل معرفة بتاريخ المصريين وتحليل شخصيتهم، ما تفجر في الميدان من ابداع ثوري يجب ان يظل في الذاكرة الوطنية من منظور وطني، اثق ان العالم سيجل الميدان ويضعه في المكانة التي تليق به، لكنني أخشي من القوي المعادية للثورة والتي تدرك اكثر من غيرها خطورة المعاني التي أشرت اليها، من المفيد استثمار الميدان كمزار سياحي وادراجه علي برامج الزيارة، لكن الثورة الفريدة، النادرة في مسار الحضارة المصرية لم تندلع، ولم يسقط اكثر من الف شهيد لتتحول الي هدف سياحي، ما نحتاجه مجموعة من الخطوات التي يتبناها الشعب نفسه وليس الحكومة الحالية المعادية لجوهر الثورة. في تاريخنا المعاصر تجربة تمثال نهضة مصر الذي ابدعه مختار المثال العبقري الذي جاء من رحم ثورة 9191، لقد اكتتب المصريون بالقرش صاغ لاقامة التمثال الذي نصب امام محطة مصر، ونحن الآن في حاجة الي استنفار مماثل يكتتب فيه المصريون من أجل اقامة نصب الثورة نصب يخلد الشهداء وفرادة الاحداث وموقف الجيش، نصب بقروش المصريين وابداعهم يجب التخطيط لذلك والا يلقي النصب مصير القاعدة الحجرية الملقاة الآن في القلعة، ولهذا حديث آخر.