اختار الأستاذ بنفسه « أسرة هيكل « تواضعا وهو الذي كان ملء السمع والبصر، وهو الذي أسبغ عليه الكتاب من الألقاب الكثير والكثير في عام 1978 تأسس المرقد الأخير للراحل الكبير محمد حسنين هيكل، من الداخل والخارج يتشابه مع كل المقابر ولكنه مختلف عنهم في شيء استوقفني كثيرا، أخذت أتأمله بعمق شديد أنساني عاطفة الحزن، المدفن تعلوه رخامة تتصدرها عبارة " دار العودة "، واحدة من المنحوتات اللغوية التي تعودناها منه في أغلب مقالاته وحواراته. لماذا لم يختر الأستاذ كلمة " مدفن " المعتادة، لماذا اختار كلمة " دار العودة "، هل قصد أن يبين أن المثوي الأخير هو ليس بمدفن إنما دار يسكنها بعد الرحيل، دار بسيطة بمساحة صغيرة بلا ديكورات أو بهرجة، دار يسكنها الجسد في هدوء، إلي أن يذوب ويتحلل ويصير ترابا، فمن تراب خلقنا وإلي التراب نعود، " وكل ما يمشي علي التراب تراب " ! ما أروعك يا أستاذ.. جعلتني أتأمل " دار العودة " دراميا وفلسفيا واستعيد قول أيوب الصديق " عرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَعُرْيَانًا أَعُودُ إِلَي هُنَاكَ"، جعلتني استدعي الاية الواردة في إصحاح 4 من رسالة يعقوب الرسول " حياتكم بخار يظهر قليلا ثم يضمحل "، نعم حياتنا مهما طالت أو قصرت فهي "بخار " يظهر قليلا ثم يتلاشي ويضمحل! تأمت أيضا جملة " أسرة هيكل " التي أنستني آلام الحزن وجعلتني أتساءل، لماذا لم يسبق الجملة كلمة " الأستاذ " التي تعودنا أن ننطقها ونكتبها قبل اسمه ؟، لماذا لم يسبقها بصفة الكاتب الكبير، أسطورة العصر، أو.... أو.... أو... من كل المسميات والأوصاف التي حفلت بها صحف الأمس وصحف اليوم وصحف الغد ؟! كم من المدافن التي رأينا اللوحات الرخامية تعلوها وعليها أسماء وصفات وعبارات التفخيم، مدفن أسرة المرحوم فلان باشا، وفلان بك، ومعالي، وفخامة، وسعادة، وزوروا مقابر الغفير والبساتين وغيرهما من المدافن لتطالعوا بأنفسكم تلك اللوحات ! اختار الأستاذ بنفسه " أسرة هيكل " تواضعا وهو الذي كان ملء السمع والبصر، وهو الذي أسبغ عليه الكتاب من الألقاب الكثير والكثير، الأستاذ جعلني أيضا وأنا في عز حزني أتأمل إدراكه بالحقيقة التي يهرب منها أغلب الناس، أمام الموت، أمام الرحيل من دار الفناء لدار البقاء، أمام الانتقال من حياة أرضية لحياة سمائية، لا توجد أسماء للتبجيل، ولا صفات للتفخيم والتعظيم، أمام تلك اللحظة التي تشكل الحقيقة الوحيدة التي لا تحتمل وجهات النظر والتأويل، الكل واحد، من الأرض خرجنا ولرحم الأرض نعود، أنبياء، رسل، ملوك، رؤساء، زعماء، نجوم، بسطاء، فقراء، أثرياء، في تلك اللحظة المؤمن وحده هو من يدرك أن الموت جسر انتقال لحياة أفضل، حياة بلا دنس، بلا شهوة، بلا مرض، بلا أوجاع وآلام، بلا أحقاد، بلا ضغائن وخلافات، المؤمن وحده الذي استعد لملاقاة الرب ينتظر تلك اللحظة بفرح. ماذا لو تملك منا الحزن علي الأستاذ الذي غادرنا ومن قبله بساعات رمز آخر هو د. بطرس غالي دون أن نفكر في تخليدهما وتخليد كل الرموز التي تغادرنا بعمل فعلي علي الأرض، لماذا لا يكون هناك مركز دراسات باسم الأستاذ هيكل، ولماذا لا نري مؤسسة دبلوماسية تحمل اسم د. بطرس غالي؟، فلننحِ الحزن جانباً ونخلد رموزنا بما يستحقون.