لم يبق برأسي ولا برأسك شعر أسود ليشيب ونحن نشاهد احتفالات القتلة، ساديون منحتهم السلطة فرصة الانتقام، استعراض متوحش للقدرة لمن لم تكرمه الحياة بأي ميزة سرقوا أعمارنا يا يوسف، نعم، سرقوا أجمل الأيام، لم يتركوا لنا ولا نسمة عابرة، قل لي بربك كيف يتأتي لنا أن نلبي دعوة عمنا صلاح جاهين: أركب حصان خيالك، ونحن نتعثر في حفرهم الكارثية بطول عمرنا، كم هو محزن أن تقضي أنت في سوريا وأنا في مصر حياتنا، رغم الأقواس الأوروبية الطويلة، وكأننا نشارك مكرهين في وقائع فيلم تعيس، وعند نهايته المحتومة عندما ادركتنا الكهولة، لا يريد أبطاله تركنا إلا بتجهيز ختام كابوسي، لترويعنا بالدم: لنشاهد الحديد يخترق اللحم، أطفال يتم التمثيل بجثثهم وفتيات جميلات يصرخن بعد أن نفد كل البكاء الممكن، ونساء يحملن مذعورات أطفالا ذاهلين، كهول ريفيون يركضون بين الحقول يحملون متاعا بائسا، يتبعهم قتلة مسعورون، جنود يقتلون أهلهم ويموتون بدورهم برصاص قادتهم. أي كابوس هذا يا يوسف الذي نتابعه في المشهد السوري، وكيف يتلذذ اللصوص والفاسدون بسحل أهلنا أمام أعيننا، عزيزي لم يبق برأسي ولا برأسك شعر أسود ليشيب ونحن نشاهد احتفالات القتلة، ساديون منحتهم السلطة فرصة الانتقام، استعراض متوحش للقدرة لمن لم تكرمه الحياة بأي ميزة، لا وسامة الروح ولا خفة الظل، لا ذكاء ولا رقة، ولا ذكريات دافئة، من أي طينة ولدوا: صدام حسين، بشار الأسد، زين العابدين، حسني مبارك، علي عبدالله صالح، القذافي، وباقي القائمة، من أي طينة بائسة يأتون، لا ثقافة ولا قدرات قيادية لا بطولة ولا حتي محبة للوطن ولا للناس، لاشيء، فاقد الشيء يفرض جبروته، ثروات فلكية، نهم وسفه، وسلطات مطلقة لتأكيد تميز مفتقد من البداية، ذوات تتضخم بسحق أي إرادة مغايرة، وكذب بالليل والنهار، تافهون يحكمون أمما كبيرة فيقزمونها وينهبونها ويحتقرون أهلها، كقدر أسود بلا رحمة.... يبدو أن هذه المرة لن تسلم الجرة. عزيزي يوسف، في زيارتي الأخيرة لمرسمك، في سبتمبر الماضي، كنت تعد لمعرضا في حمص، وكانت اللوحة الكبيرة في المرسم لازالت واقفة هناك: عصفور وسكين، اخترتها أنت ملصقا ولازلت أضعه علي جدران مرسمي في القاهرة، وأنا أتأمل العمل سألت نفسي: لماذا عصفور وسكين؟ وكنت من قبل قد رأيت لك عملا سابقا فيه قبضة كبيرة مغلقة، وظل السؤال يراودني كثيرا: لماذا هذه المباشرة؟ وكان هذا الهاجس متصلا لدي دائما عن عملك، وعن شغفك وحرفيتك الرائقة، يبدو لي الآن وكأن هذه الأشياء التي ترسمها تتجاوز حضورها المباشر، وكأنها تدرك مغبة كونها ذات بلاغة معتمدة، يحرجها تاريخها الرمزي، وقد وجدت أنت حلا للخروج بها من هذا الحرج، وهذا فعل معاصر بامتياز، فقد وصلت بحدسك إلي قوة حضورها القلق هذا، خارج دوائر الإحالة السهلة، عبر اهتمامك الهوسي بها وبتفاصيلها وتكبيرها وتفخيمها أيضا، هو نوع من الجنون، ولكنني أرجو ألا تشفي منه، فهذه الأشياء تتحرر بقوة وبفضل هذا الوسواس من فاعليتها الرمزية، لتدخل في مأزق مع ذاتها، فقد تحررت من كونها رموزا ولكن أين ذهبت، وكأنك أجبرتها علي خلع ثيابها البلاغية، لتقف خارج شاعريتها المعتمدة علي شفا غيب آخر لا نعرفه. الأسماك المحدقة في لاشيء فاغرة فمها والأحذية، والأزهار والأقداح، وكأننا نتحدث عن أقدار مقبضه لا أشياء وكائنات، وهذا السكين بالمثل والعصفور أيضا، العصفور لم يتلق الطعنة يبدو أن موته طبيعيا، والسكين مغروز خلفه بقوة في أرض ما، هل كانت نبوءة للمذبحة القادمة التي رأيتها قبلنا، هل تتذكر أمل دنقل: أيها الواقفون علي حافة المذبحة ... ربما يساعدنا أمل دنقل في فهم المسألة، فهو أيضا يتبني مباشرة محيرة وكأنها ميثولوجيا قديمة لا تكشف كل أوراقها، بتفخيمه للجرس والإيقاع اللفظي، يتخطي المستوي الأول ويحتفظ خلفه بقلق ما، يجعل أعماله الشعرية أكبر من تعليق علي ما حدث، أو فصاحة ميدان، أو يقين ما، الحل لديه في هذا الدفع الزائد، في الشغف بتلك الأشياء وتكبيرها وتفخيمها بحيث تتحرر من إحالاتها المعهودة. سنكمل الحديث، حرصت أن أترك لك الفكرة بخشونتها كما هي لنتأملها معا فيما بعد. 25 سنة بعيدا عن بلدك لم يمنحوك وثيقة سفر، مطاردة وسجن ومغادرة وحضور فرنسي بطعم الغياب، سبعة عشر عاما بلا جواز سفر يا رجل، حديث يطول بيننا عن سد النقص، عن الهم العام، عن غياب المؤسسات، عودتك الرائعة واحتفال دمشق برجوعك، مفاجآت الشعوب، ولا وقت لإعادة ترتيب الأوراق من جديد، توحش السوق وقوة المال، 25عاما في فرنسا ولم تطلب الجنسية الفرنسية، أنت أيها القامشلي، ترفض أن تصبح فرنسيا ... ربما كنت تدرك في ساعتك الداخلية أن اللحظة لتفخر بسوريتك قادمة لا ريب فيها. عزيزي أرجوك توصيل سلامي للأصدقاء: مني ورافيا ونزير والياس وأسعد وزياد ومنير وياسر وفادي وناصر، ولكل من يشبهونك، قل لهم إن جروحكم تأكل أرواحنا هنا في مصر، نحبكم، وندرك أنكم عندما تخرجون من هذا الكابوس ستمنحوننا جميعا الأمل في أن أياما جديدة قادمة ستكون أكثر رحمة بنا لن يوقفنا أحد لا هنا ولا هناك. سوريا هي فرحتنا القادمة، التي تؤكد لنا وللعالم أن التغيير في تونس ومصر لم يكن استثناء، وإنما هي خطوات مدفوعة الثمن في تحول كبير وشجاع، واقع لا محالة في هذا الجزء من العالم، وربما نبتسم ونحن نتحرك معا من أجل معاصرة أكثر إنسانية، يقولون أن من يضحك أخيرا، يضحك كثيرا، ولكن أي نوع من الضحك ذلك الذي يحل متأخرا، أعتقد أن الضحك الأخير سقيم بطبعه، لأنه ضحك مفرد بلا مشاركة، ضحك يظلله التشفي، الضحك يتحرر ليحررنا من أي ثقل سابق، ربما سنضحك من حالنا ومن جلدنا الذي أصبح سميكا بفضل الاستبداد المقيم، فماذا