أظن أن كل وزارة أو مؤسسة حكومية تحتاج إلي قدر كبير من الضبط والربط والحزم علي نحو يسمح لنا بأن نتحدث بعد ذلك عن دولة متماسكة البنيان ومجتمع قادر علي الصمود أدرك أنني اقتحم موضوعاً شائكاً وأتطرق إلي قضية تثير الجدل، فالإعلام في هذه الأيام متهم دائماً بأنه يثير الرأي العام في مسائل يبدو مبالغاً فيها ويلعب دوراً مؤثراً في السياسة الداخلية والخارجية بل ويسبقهما معاً علي نحو قد يفرض علي الدولة مواقف لم تكن مهيأة لها، وهناك علي الجانب الآخر دفوع إعلامية تري أن الإعلام أسهم إسهاماً كبيراً في صنع الثورة ودعم الشرعية وإسقاط نظامين، أولهما بسبب ترهله وشيوع الفساد والاستبداد فيه والثاني لغياب هويته الوطنية واتجاهه بالبلاد إلي الهاوية، ويهمني هنا أن نقدم كشف حساب موضوعيا للإعلام المصري الذي يشكو منه البعض في «مصر» وفي «العالم العربي»، ولقد قرأت مؤخراً تصريحاً لرئيس «السودان» يحمل فيه الإعلام المصري مسئولية تعقيد موضوع «سد النهضة» بينما أري شخصياً أن الإعلام المصري لعب دوراً كاشفاً في هذه القضية الحيوية وكان فيها معبراً عن رأي الشارع المصري دون تهويل أو تهوين، ولعلي أسجل هنا الملاحظات الآتية: أولًا: إن القوي الناعمة ل»مصر» كانت ولاتزال هي صاحبة التأثير الأكبر في المنطقة العربية وقد امتلكت «مصر» في فترات معينة انتشاراً وذيوعاً في «القارة الإفريقية» وامتد تأثيرها إلي العالم الإسلامي شرقاً وغرباً، وقد لعبت الثقافة المصرية دوراً خطيراً في تشكيل وجدان المنطقة فهي أغلي سلعة تصدرها «مصر» وقد أتبعتها بحشود المعلمين والأعداد الكبيرة من الأطباء وعشرات الألوف من المهندسين يعلمون ويطببون ويبنون فأصبح ذلك محل اعتراف لدي كل الأشقاء والأصدقاء، وعندما أطل «العصر الناصري» بملابساته وإنجازاته والمد القومي فيه والأهداف الثورية له مضي الإعلام المصري لكي يخدم أهداف العصر ويدعم رؤية الثورة القومية ويبشر بأمة مختلفة في عصر جديد، وبرزت «مدرسة صوت العرب» بقيادة «أحمد سعيد» لكي تحرك الجماهير الهادرة من (المحيط الأطلسي إلي الخليج الفارسي) واهتزت أركان المنطقة لفكر «عبد الناصر» ودعواه وتوجهاته وأصبحت السيادة الإعلامية المصرية أمراً ملحوظاً، وقد وقفت الصحافة اللبنانية علي الجانب الآخر تعبر عن وجهة نظر مختلفة وتواجه «الغول» الإعلامي المصري بصحف متفوقة المهنية ذات تاريخ طويل أيضاً خصوصاً وأن الصحافة المصرية كانت في أغلبها «صناعة شامية»، لذلك فإنني أسجل هنا أننا امتلكنا أداة إعلامية متميزة بعد منتصف القرن الماضي وسخرناها لخدمة أهداف المرحلة في وقت إلتف فيه الشعب العربي حول «القاهرة» عاصمة النضال القومي. ثانياً: لقد تطورت الدنيا وتغيرت الأحوال وشب الصغار عن الطوق وبدأت المزاحمة الإعلامية ل»مصر» بإعلامها المقروء والمسموع والمرئي وكانت «قناة الجزيرة» هي المدرسة العربية الثانية بعد «مدرسة صوت العرب» الأولي، وتصورنا أننا أمام قناة عربية قوية تقف في مصاف الفضائيات العالمية ولكن تلك القناة التي تبث من دولة «قطر» تحول مسارها وفقدت حيادها وأصبحت بوقاً لتيارات معينة وسياسات بذاتها فسقطت مصداقيتها وأظنها قد خسرت كثيراً حتي تضاءل حجم المشاهدة لها ولم تعد شيئاً مذكوراً، ولكن يبقي الإعلام المصري صاحب التأثير القوي في الداخل حيث الفضائيات التي انتشرت والبرامج الحوارية التي سيطرت علي ثقافة الأسرة المصرية وارتبطت ارتباطاً وثيقاً بما أطلقنا عليه «حزب الكنبة» فقد أصبح المصريون بعد ثورة يناير 2011 مسيسين يعرفون التفاصيل في كل ما يشاهدون ويدركون أهمية ما يرون وهنا تبدو خطورة الإعلام المصري وتأثيره علي القرار الرسمي والمزاج الشعبي حتي أصبحنا بحق أسري للفضائيات والبرمجيات في عصر تبدو فيه السيادة للصورة المرئية والعبارة المسموعة والكلمة المقروءة، وإذا كانوا قد قالوا من قبل: «إن لكل زمان آية وأن آية هذا الزمان الصحافة» فإننا نقول بلا تردد إن آية هذا الزمان هي التفوق الكاسح في تكنولوجيا المعلومات وشيوع وسائل الاتصال وذيوع أدوات التواصل في إطار «القرية الكونية» التي أصبحت تشكل طبيعة المجتمع المعاصر. ثالثاً: لقد لعب الإعلام المصري دوراً مؤثراً في نكسة 1967 وفي انتصار 1973 وكان تعبيراً حقيقياً عن الواقع بمرارته وحلاوته، بانكساره وانتصاره، وإذا كان هناك من ينتقدون الإذاعي المخضرم «أحمد سعيد» - أمد الله في عمره - فإنهم يتناسون روح العصر وطبيعة المرحلة والسياسة الموجهة في ذلك الوقت، كما أن الإسهام الفني من خلال الإعلام المسموع والمرئي قد شكل هو الآخر مشاعر الناس وأحاسيسهم خلال أعياد الثورة المصرية في شهر «يوليو» من كل عام وأيضاً في أهازيج النصر يوم أن عبر المصريون البواسل «قناة السويس» وحطموا أكبر ساتر في التاريخ وتمكنوا - وهم خير أجناد الأرض - من تحقيق ملحمة العبور بكل ما اختلط بها من مظاهر الكبرياء الوطني والشموخ المصري، ولن نختتم هذه السطور دون الإشارة إلي دور الإعلام المصري في ثورتي «25 يناير» و»30 يونيو» وتحقيق الحشد الذي أدي إلي تأكيد الإرادة المصرية وإسقاط نظامين في فترة قياسية لا نظير لها في تاريخ الشعوب لأنها «مصر» «الكنانة» و»المحروسة» و»أم الدنيا». الجيش المصري أتاحت لي الظروف في الأسابيع الماضية أن التقي بطلاب الكليات العسكرية في معاهدهم الراقية من مختلف التخصصات وأزعم أن تلك الزيارات قد أزالت جزءاً كبيراً من الإحباط الذي كنت أشعر به بسبب الظروف المحيطة بالوطن المصري والاستهداف الواضح له من كل اتجاه، لقد شعرت أننا أقوي مما نتصور وأكبر مما نتخيل، فالجيش العظيم الذي بناه «محمد علي» منذ أكثر من مائتي عام لازال قابضاً علي تماسكه معتزاً بترابطه مزهواً بانضباطه وتمنيت لو أننا عسكرنا الدولة المصرية من حيث الإدارة والتنظيم ولا أعني السياسة بالطبع فتلك لها أهلها المتخصصون ولكنني أظن أن كل وزارة أو مؤسسة حكومية تحتاج إلي قدر كبير من الضبط والربط والحزم علي نحو يسمح لنا بأن نتحدث بعد ذلك عن دولة متماسكة البنيان ومجتمع قادر علي الصمود أمام كل التحديات، فإذا كنا نعاني من اللامبالاة و»الفهلوة» بل والفوضي أحياناً مع سقوط حائط الاحترام من الصغير تجاه الكبير ومن الأحدث تجاه الأقدم فإن جيشنا العريق يقدم النموذج العكسي تماماً فضلاً عن النظام الدقيق والنظافة الكاملة، ويكفي أن أقول إن «دورات المياه» في الجيش بدءاً من أصغر وحدة عسكرية إلي أعلاها هي أكثر نظافة وترتيباً من «دورات المياه» في معظم وزارات الدولة ومؤسساتها وربما يكون هذا معياراً غير لائق ولكنني تعودت أن أحكم به علي الذين يعيشون فيه ويتعاملون معه ويستخدمونه، كما إنني أود أن أشير صراحة - وليس لدي مبرر لنفاق أو ادعاء - إلي المستوي الفكري العالي لشبابنا في الكليات العسكرية وهو أمر بهرني تماماً وآمنت معه أن تنظيم الوقت بإسلوب علمي يؤدي إلي كفاءة التحصيل والقدرة علي حيازة المعرفة واستيعاب العلم، كما أقرر هنا صراحة أن التدقيق في الاختيار يدفع إلي الكليات العسكرية بخيرة شبابنا وأفضل أبنائنا ولابد أن أوجه تحية هنا لآخر ثلاثة وزراء دفاع وأولهم «المشير طنطاوي» الذي كان معروفاً بصرامته العسكرية وحرصه علي الانضباط الكامل مع العناية بالتدريب والتنظيم والتسليح علي نحو غير مسبوق انطلاقاً من وطنيته المعروفة، أما الوزير الثاني فهو «المشير عبد الفتاح السيسي» الذي استطاع أن يجمع قواته المسلحة علي كلمة سواء وأن يبعث روحاً عسكرية دافئة بين صفوفه أما الفريق أول «صدقي صبحي» فهو ذلك الرجل الصالح الذي يعتبر بطل «السويس» الحقيقي مع بداية ثورة يناير 2011 ولولاه هو ورجاله لتداعت الأمور بشكل أسوأ بكثير مما حدث، كما أنني أري أن الفريق «محمود حجازي» رئيس الأركان الحالي ابن بار للعسكرية المصرية وكبريائها المعروف ولقد سمعت عن كلماته الحكيمة في الاجتماع التحضيري ل»القوة العربية المشتركة» بمقر «جامعة الدول العربية» والتي عبر فيها عن القيمة الحقيقية للعسكرية المصرية ومكانتها دولياً وعربيًا، ولا اختتم هذه الفقرة إلا بما سمعته من وزير الدفاع الأمريكي علي شاشة «قناة الجزيرة» منذ عامين عندما قال: «ويبقي الجيش المصري هو أقدم جيوش المنطقة وأكبرها وأكثرها مهنية». ناعوت والبحيري لا أخفي قلقي الشديد عندما قرأت حكم المحكمة علي الكاتبة والأديبة «فاطمة ناعوت» بالسجن ثلاث سنوات وقبلها علي الكاتب والإعلامي «إسلام البحيري»، ومصدر قلقي هو خشيتي من استخدام الدفوع الدينية بصورة غير دقيقة في تجريم الناس وأنا لم أعرف «إسلام البحيري» شخصياً بل اعترف أنني لم أشاهد معظم حلقاته لأنني من غير مدمني مشاهدة «التلفاز»، ولكنني عرفت الأخت الفاضلة «فاطمة ناعوت» في مناسبات متعددة كما قرأت لها كثيراً وأعجبتني حفاوتها ب»اللغة العربية» وأنها لا تقع في خطأ نحوي أبداً فضلاً عن أنها شاعرة وكاتبة وأديبة، وأنا أفترض حسن النية تماماً فيما قالته عن ذبائح الأضاحي في «عيد التضحية» ولا أظنها لا هي ولا من انتقد «الإمام البخاري» يهدفان إلي ازدراء الأديان أو الإساءة إلي «الإسلام» دينهما الحنيف، وأتطلع إلي أن يتدخل «الإمام الأكبر» شخصياً - وهو المعروف بحصافته وحكمته وسماحته وصوفيته - لدي المحكمة المختصة بشهادته في كل حالة معلناً أن «الإسلام» أكبر وأعظم وأعمق من أن تجرحه خدوش غير مقصودة وأن يطلب لهما العفو باعتبارهما شخصيتين مسلمتين تنطقان بالشهادة بل إن «فاطمة ناعوت» حافظة ل»كتاب الله» الكريم وهو ما انعكس علي لغتها الرفيعة، ويومها يا فضيلة «الإمام الأكبر» سوف تتسع عباءة «الإسلام» وترتفع أكثر وأكثر عمامته لأنها استوعبت بالتسامح ما لا يجب مواجهته بالعقاب الرادع أو الانتقام الشديد، حمي الله «الإسلام» بل وكل ديانات السماء في كل زمان ومكان. قانون «الخدمة المدنية» لقد انزعجت كثيراً لرفض «مجلس النواب» المصري لقانون «الخدمة المدنية» الذي صدر عن رئيس الجمهورية في غيبة «البرلمان»، وسبب انزعاجي هو أنني أعلم - كما يعلم الكثيرون - أن لكل شيء ثمناً ولكل قرار كلفة، والإصلاح لا يأتي دون تضحيات ولا يهبط علينا ذات مساء ونحن علي ما نحن فيه (لا يغير الله ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم)، والكل يدرك أن لدينا جهازاً إدارياً مترهلاً لدولة عرفت الإدارة المركزية منذ فجر التاريخ المكتوب فأصبح الروتين علامة واضحة في مسيرتها ومعوقاً كبيراً لتقدمها فإذا أردنا أن نربط الأجر بالعمل أو الدخل بالإنتاج فتلك مسألة يجب ألا يجادل فيها أحد لأننا نسعي لبناء دولة عصرية حديثة بإجراء عملية «ريجيم» لجهازنا الإداري الذي أضحي تجسيداً حقيقياً للبطالة المقنعة وأصبح يساوي إلي حد كبير بين من يعملون ومن لا يعملون، فضلاً عن أن نظرية «عيال الدولة» آن لها أن تغرب إذا أردنا الإصلاح الحقيقي والبناء السليم، فيا ليت السادة النواب الجدد يدركون أنه ليس كل ما تطلبه الجماهير يكون في صالحها فهم ينظرون إلي الأجل القصير ولا يفكرون في المستقبل البعيد، وأنا أطالب بإقرار القانون بعد تعديلات من الحكومة عليه بشرط ألا يغلق بيتاً وألا يضار موظف وألا تضيع في ذات الوقت الكفاءات المطلوبة والخبرات المتاحة في بلد تمثل فيه الموارد البشرية أغلي ما لديه.