عزيزي جمال.. واسمح لي ان اخاطبك هكذا «حاف» باسمك المجرد كما كنت تحب دون ألقاب. لقد أزلت أنت أسواراً لم اكن لأجرؤ يوماً علي إزالتها تقديراً لك وتعظيماً لقدرك، لكنك كنت من التواضع الرهيف الذي يأبي أن تسبق اسمه «الأستاذية»، مع انك كنت تمارسها بتلقائية ويحسها ببساطة كل من تعامل معك، فقد كنت تشيع قبس المعرفة بسلاسة السهل الممتنع. اليوم أخاطبك فقد حال مرضي دون وداعك وتشييعك، حين لبيّتَ هاتف المغيب ولم يستجب القدر لدعواتنا بحدوث المعجزة. لسنا في زمن المعجزات.. أعرف. لكننا كنا نراهن عليك أنت وعلي تمسكك بالحياة وعودتك من سُباتك الذي طال لتستكمل كثيراً مما بدأته ولم تنهه، ولتنجز مشروعاتك التي قلت انها تحتاج منك عشرين عاماً أخري. تمنينا مثلك أن تُمنح فرصة أخري للعيش وأن تولد من جديد، ربما لإحساسنا بالاحتياج اليك كقيمة إنسانية ووطنية وثقافية. وكلما طال السُبات ابتعد الأمل وتمادي الخوف من الفقد. هل تذكر ذلك الشعور الذي نبهتني اليه ذات مرة قبل سنوات؟ هل تذكر يومياتك التي كتبتها تبث فيها لوعتك حين اكتشفت مرض زوجتك الحبيبة «ماجدة»؟ شفاها الله وعافاها وأحسن عزاءها. يومها غضبت منك بشدة وعاتبتك، قلت لك: يا أخي تفاءلوا بالخير تجدوه هل ترثيها يارجل بدلاً من أن تدعو لها بالشفاء؟ أن تعتذر لها عن نزواتك ودلالك عليها وعدم تحملك المسئولية معها، عن تضحياتها في سبيلك وفي سبيل مسيرتك كل هذا علي عيني وراسي لكن ليس هكذا! سألتني: هل تأثرتِ إلي هذا الحد؟ هل الرثاء هو مافهمتِه من سطوري؟ قلت بحدة : نعم، وغضبت من أسلوبك رغم تقديري لعواطفك الجياشة تجاه حبيبة عمرك، لكن انقبض قلبي.. فهل أسأت فهمك؟ قلت لي: كلا علي الإطلاق لقد أصبت فهم مشاعري ولكن في الاتجاه العكسي!، ما بُحتُ به كان استدعاء للحظات تسربت من بين يدي كان واجباً أن أفصح لها فيها عن تقديري لتضحياتها واعتذاري عن غياباتي الطويلة، أن أعبر عن عشقي لها الذي لم أبينه كما ينبغي. الرثاء لم يكن لها - أطال الله في عمرها - بل كان رثاء لحالي أنا. إنه الشعور بالعجز عن مشاطرتها آلامها المبرحة والشعور بالخوف من فقد الحبيبة! وباغتني بسؤال: هل جربتِ يوماً هذا الشعور بالعجز والخوف من الفقد؟ أجبتك بسرعة وقد توارت حدّتي: نعم كثيراً من قبل. وافقتك حينها علي تفسيرك ودخلنا في نقاش إنساني ونفسي طويل لم أنسه أبداً وها أنا أستدعيه الآن، فقد أضأت بفلسفتك زاويا الأحزان التي كانت معتمة في وجداني وأتجنب الاقتراب منها بهذه الجرأة. اليوم وأنا أفكر في كتابة هذه الرسالة إليك لم يدر بخلدي أن أرثيك أو أنعيك، ولا أن أدور في ذات الدائرة التقليدية بتعديد مناقبك من باب اذكروا محاسن موتاكم، فحضورك يطغي علي غيابك الذي بات واقعاً مراً، والرثاء يكون لحالنا كما قلت أنت ونحن نري الدنيا تخلو يوماً تلو الآخر من أحبابنا الذين نتدثر بوجودهم في حياتنا. لكني سأتعامل مع هذا الغياب بمنطق طزاجة الحضور لأقرأ ما فاتني من كتاباتك وأعيد قراءة ما سبق أن قرأت وأستحضر تفاصيل نصائحك الصغيرة الثاقبة فأنت صديق استثنائي يصعب علي المرء أن يفقده وقد قررت ألا أفقدك. سلاماً عزيزي جمال. إلي مسئولي المناهج من المهم ان تطالع الأجيال الصغيرة في مراحل التعليم المختلفة بدءاً من المرحلة الإعدادية مثلاً مدونات حرب أكتوبر التي سجلها جمال الغيطاني بقلمه عندما كان يعمل في صدر شبابه محرراً عسكرياً. الفائدة هنا ستكون مزدوجة أن يحظي الطلاب بكم معقول من المعرفة بتلك الحرب المصيرية التي خاضها وطنهم وحررت سيناء، ثم الاطلاع علي قطع من الكتابة الرفيعة الراقية، ناهيك عن اطلاعهم علي النصوص الأدبية التي كتبها. ولن يتأتي ذلك إلا بتضمين أعماله سواء في فن المقال او القصة القصيرة أو حتي الرواية في المناهج الدراسية المقررة علي المرحلتين الإعدادية والثانوية.