كان الاشقاء المصريون المقيمون في العراق خلال السبعينيات والثمانينيات يزيد عددهم عن خمسة ملايين مصري يتمتعون بكل حقوق العراقيين وأكثر من الاقامة الي العمل الي التملك الي الدراسة الي تصريف الدينار رسمياً بثلاثة دولارات في الوقت الذي كان المواطن العراقي يصرف الدولار بثلاثة دنانير في البنك المركزي العراقي قبل ان يصبح الدولار بثلاثة آلاف دينار تقريباً. وقبل كل ذلك كان الاشقاء المصريون محاطين بحب الشعب العراقي والنظام السياسي السابق لان المصريين عموماً شعب ودود واجتماعي وحضاري وعروبي. وكانت اللهجة المصرية الجميلة هي الحبل السري بين العراقيين والمصريين. وفي تلك الفترة حَوّل "الجدعان" حارة "المربعة" وسط بغداد الي ما يشبه الحلمية أو العتبة أو شبرا, بمطاعمهم ومقاهيهم وحزبي الاهلي والزمالك. وكان من عادة الاخوة المصريين ان يحملوا معهم خلال سفرهم في الاجازات الي مصر حقائب ضخمة تحمل عبارة "رحلة سعيدة" يملأونها بالسلع المختلفة. ويمكن ان ينام الانسان في هذه الحقيبة مرتاحاً ويحلم بالمستقبل الديمقراطي بسبب رحابتها! وكنا نتندر كثيراً علي هذه الحقيبة ونضحك من حاملها, الي ان دارت دورة الزمان وجري الذي جري علي رأي المطربة التونسية الراحلة عُليّا, فاشتري ملايين العراقيين الهاربين من الموت حقائب "رحلة سعيدة" وبدأوا رحلة الالف ميل من محافظة الي أخري ومن صوب الرصافة الي صوب الكرخ وبالعكس, ومن العراق الي الخارج, ليس بسبب الحروب والحصار والقمع والاحتلال والميليشيات والانفجارات والكآبة فقط ولكن بسبب عدم ثقتهم بالحكام الذين جاءوا مع الاحتلال الاميركي وعدم أهلية هؤلاء لحكم الشعب العراقي. والدليل علي ذلك ان واحداً من هؤلاء صرح غداة تشكيل الحكومة الجديدة قبل شهر ان هذه الحكومة ستبدأ بتأسيس الدولة العراقية! وهذه أكبر أهانة توجه الي العراقيين الذين علموا الدنيا مع قدماء المصريين تأسيس الدول والامبراطوريات والممالك حين كانت اميركا في علم الغيب وكانت اوربا يحكمها قطاع الطرق والرعاع. ومع ذلك فان هؤلاء القادمين مع الاحتلال حاملين معهم حقائب "رحلة سعيدة" ايضاً لم يستطيعوا ان يؤسسوا خلال ثماني سنوات من حكمهم مدرسة واحدة أو مستشفي أو محطة كهرباء. ولكنهم نجحوا في تحويل البلد الي سرادق عزاء كبير طوال العام يشبع فيه الناس لطماً وبكاءً علي الميتين والاحياء. ولأول مرة منذ رحيل المغول وهولاكو عن العراق أصدر ملالي بغداد تلاميذ ملالي طهران "فرمانات" بمنع الموسيقي والغناء والسيرك والتمثيل وغلق النوادي الاجتماعية والعودة الي عصر الحريم. ولذلك فإن العصر الذهبي لحقيبة "رحلة سعيدة" هو هذه السنوات العجاف. وهو ما يذكرنا بقصة الاسد والثعلب التي تروي ان أسداً كان يعيش في إحدي الغابات كلما رأي الثعلب يقول له "اليوم سأفترسك" فقال له الثعلب دعني اربطك الي شجرة ليوم واحد فهذه أمنية عندي قبل ان تأكلني. فوافق الاسد علي ذلك.. فربطه الثعلب الي شجرة وقال له "سآتيك صباح غد وأفك رباطك لتأكلني". ولما طلع الصباح لم يأت الثعلب وأخذ الاسد يتوسل بالحيوانات لفك رباطه. فاستنجد بالفيل لكنه رفض وقال له انت الذي كنت تأكل صغارنا ولنا ثأر معك. ومرّ القرد واستنجد به ورفض وقال له "انت الذي كنت تهجم علي قريتنا وتقتل الصغار والكبار". وقال الاسد: "هذا وعد مني بأن لا أقتل احداً منكم بعد اليوم". ووافق القرد وفك رباط الاسد. وذهب الاسد راكضاً فسأله القرد: "الي اين تذهب يا ملك الغابة؟" فرد عليه الاسد: "الغابة التي فيها الثعلب يربط والقرد يحل ليس لي فيها مكان"! لقد وصلت الامور الي اضطرار الاسد واللبوة والاشبال لشراء حقائب "رحلة سعيدة" بعد ان استولي علي السلطة في العراق تحت مظلة الاحتلال الجهلة والمتخلفون عقلياً والايرانيو الهوي واللصوص ليعيثوا في بلاد الرافدين فساداً باسم الديمقراطية والحرية والفيدرالية. انها رحلة سعيدة.. نحو المجهول.. وطناً وشعباً. كاتب المقال: كاتب عراقي