لا شك أن ملف الخطاب الديني واحد من أهم الملفات الصعبة الشائكة، وأن الإقدام علي التجديد في القضايا الفقهية والشرعية، والنظر في المستجدات العصرية، وفي بعض القضايا القابلة للاجتهاد، يحتاج إلي رؤية ودراية وفهم عميق وشجاعة وجرأة محسوبة، وحسن تقدير للأمور في آن واحد. كما أنه يحتاج من صاحبه إلي إخلاص النيّة لله ، بما يعينه علي حسن الفهم وعلي تحمل النقد والسهام اللاذعة، ممن أغلقوا باب الاجتهاد، وأقسموا جهد أيمانهم أن الأمة لم ولن تلد مجتهدًا بعد، وأنها عقمت عقمًا لا براء منه، متناسين أو متجاهلين أن الله (عز وجل) لم يخص بالعلم ولا بالفقه قومًا دون قوم، أو زمانًا دون زمان، وأن الخير في أمة محمد (صلي الله عليه وسلم) إلي يوم القيامة. علي أننا نؤمن بأن تسارع وتيرة الحياة العصرية في شتي الجوانب العلمية والاقتصادية والتكنولوجية، إضافة إلي التقلبات والتكتلات والتحالفات والمتغيّرات السياسية، كل ذلك يحتم علي العلماء والفقهاء إعادة النظر في ضوء كل هذه المتغيّرات، ويعلم الجميع أن الإقدام علي هذا الأمر ليس سهلا ولا يسيرًا، ويحتاج إلي جهود ضخمة من الأفراد والمؤسسات، غير أننا في النهاية لابد أن ننطلق إلي الأمام، وأن نأخذ زمام المبادرة للخروج من دائرة الجمود. كما نؤمن أيضًا أن بعض الفتاوي ناسبت عصرها وزمانها، أو مكانها، أو أحوال المستفتين، وأن ما كان راجحًا في عصر وفق ما اقتضته المصلحة في ذلك العصر ، قد يكون مرجوحًا في عصر آخر إذا تغير وجه المصلحة فيه، وأن المفتي به في عصر معين، وفي بيئة معينة، وفي ظل ظروف معينة، قد يصبح غيره أولي منه في الإفتاء به إذا تغيّر العصر، أو تغيّرت البيئة، أو تغيّرت الظروف، ما دام ذلك كله في ضوء الدليل الشرعي المعتبر، والمقاصد العامة للشريعة. وعندما نمعن النظر في قراءة توصيات المؤتمر الدولي العام الرابع والعشرين للمجلس الأعلي للشئون الإسلامية ، نجد أن العلماء المشاركين في المؤتمر الذين شاركوا ببحوثهم أو مداخلاتهم أو توصياتهم التي خرجت بإجماع الحاضرين ، قد حاولوا أن يحددوا مفاهيم بعض المصطلحات، وأن يعيدوا قراءتها قراءة واعية في ضوء ظروف العصر ومستجداته ومتطلباته، منها : 1- الإرهاب، وهو الجريمة المنظمة التي يتواطأ فيها مجموعة من الخارجين علي نظام الدولة والمجتمع، وينتج عنها سفك دماء بريئة أو تدمير منشآت أو اعتداء علي ممتلكات عامة أو خاصة. 2- الخلافة : وصف لحالة حكم سياسي متغير يمكن أن يقوم مقامها أي نظام ، أو مسمي يحقق مصالح البلاد والعباد ، وفق الأطر القانونية والاتفاقات الدولية. وما ورد فيها من نصوص يحمل علي ضرورة أن يكون هناك نظام له رئيس ومؤسسات، حتي لا يعيش الناس في فوضي، فكل حكم يحقق مصالح البلاد والعباد ويقيم العدل فهو حكم رشيد، وعليه.. فلا حق لفرد أو جماعة في تنصيب خليفة ، أو دعوي إقامة دولة خلافة خارج أطر الديمقراطيات الحديثة. 3- الجزية : اسم لالتزام مالي انتهي موجبه في زماننا هذا وانتفت علته بانتفاء ما شرعت لأجله في زمانها، لكون المواطنين قد أصبحوا جميعاً سواء في الحقوق والواجبات، وحلت ضوابط ونظم مالية أخري محلها، مما أدي إلي زوال العلة. وما ورد في القرآن الكريم من حديث عنها.. يحمل علي الأعداء المحاربين والمعتدين الرافضين للمواطنة، وليس علي المواطنين المسالمين المشاركين في بناء الوطن والدفاع عنه. 4- دار الحرب : مصطلح فقهي متغير، وقد أصبح في وقتنا الحاضر لا وجود له بمفهومه المصطلحي القديم ، في ظل الاتفاقات الدولية والمواثيق الأممية، ولا يُخِلُّ تغيره بالتأكيد علي حق الدول في استرداد أرضها المغتصبة، وأخصها حقوق الشعب الفلسطيني، والشرع يوجب الوفاء بالعقود، وعليه فلا هجرة من الأوطان بدعوي الانتقال لدار الإسلام. 5- المواطنة : تعني أن يكون المواطنون جميعاً سواء في الحقوق والواجبات ، داخل حدود دولهم. 6- الجهاد : رد العدوان عن الدولة بما يماثله دون تجاوز أو شطط، ولا مجال للاعتداء ، ولا حق للأفراد في إعلانه، إنما هو حق لرئيس الدولة ، والجهات المختصة بذلك ، وفق القانون والدستور. 7- علي المؤسسات العلمية الدينية وضع ضوابط التكفير ؛ لتكون بين يدي القضاء، وبما يشكل وعيًا ثقافيا ومجتمعيا ، يميز بين ما يمكن أن يصل بالإنسان إلي الكفر ، وما لا يصل به إليه. أما الحكم علي الأفراد أو المنظمات أو الجماعات ، فلا يكون حقا للأفراد أو المنظمات أو الجماعات، وإنما يكون بموجب حكم قضائي مستند علي أدلته الشرعية، والضوابط التي تضعها المؤسسات الدينية المعتبرة، حتي لا نقع في فوضي التكفير ، والتكفير المضاد. مع التأكيد أن استحلال قتل البشر ، أو ذبحهم ، أو حرقهم ، أو التنكيل بهم من قبل الأفراد أو الجماعات ، أو التنظيمات ، يُعَدَُّ خروجا عن الإسلام. 8- الحاكمية : تعني الالتزام بما نزل من شرع الله ، وهذا لا يمنع احتكام البشر إلي قوانين يضعونها في إطار مبادئ التشريع العامة وقواعده الكلية، وفقاً لتغير الزمان والمكان ، ولا يكون الاحتكام لتلك التشريعات الوضعية مخالفا لشرع الله ، ما دام أنه يحقق المصالح العامة للدول والشعوب والأفراد والمجتمعات. ولن يقف جهد المجلس الأعلي للشئون الإسلامية عند حدود إصدار هذه التوصيات، لكنه شكل لجنة دولية لمتابعتها ، تنعقد كل أربعة أشهر في دولة من الدول العربية أو الإسلامية، وسيكون اجتماعها القادم في شوال 1436ه بدولة الأردن الشقيقة، ثم بدولة البحرين الشقيقة. كما أن المجلس الأعلي للشئون الإسلامية بالقاهرة سيعقد عددًا من الصالونات ، لشرح التوصيات وتوضيح أبعادها وجوانبها،كما سيقوم بإصدار كتيب شارح لهذه التوصيات.. يؤصل لها تأصيلا علميا وشرعيا وفقهيا، وقد كلف اثنين من العلماء المتخصصين بذلك، وإننا لعلي أمل أن يصدر هذا الكتيب في موعد أقصاه شهران من تاريخه (بإذن الله تعالي ) وإننا نؤمّل ألا يسلك العقلاء مسلك العامة في النقد العاطفي، أو النقد الانفعالي، أو تجاوز الموضوعية ، بالتسرع في الأحكام قبل القراءة الوافية المتأنية ، لما يراد الحكم أو التعليق عليه، وأن نقدم المصلحة الشرعية والوطنية علي أي اعتبارات أخري، وساعتئذ فلا حرج في النقد الموضوعي، ولو ردّنا الحق عبيدًا لرددنا إليه صاغرين.