فلما كانت الليلة السادسة والثلاثون.. قالت شهريار، بلغني أيها الملك السعيد أن أمل أصبحت طبيبة، بينما لم يحصل رأفت علي شهادة، لكنه سافر إلي إيطاليا، وانقطع عن أهله سنوات حتي ظنوا أنه قد مات، وفجأة عاد فأقاموا الزينات وحكوا له عن دموع الخوف واليأس طوال سنوات. وأخذوا يحكون له عمن عاش ومن مات، ثم إنه سأل عن أمل فأخبروه بمكانها في البيت والعمل. وصارح أبوه برغبته في الارتباط بها، وتذكر أبوه العهد والاتفاق بينه وبين صديقه مسعد بأن يزوجوهما لبعضهما البعض، لكنه قال يا بني كان هذا عهدًا بيني وبين صديقي، لكن الزمان تغير، ولا أظن أنكما يمكن أن تتزوجا علي الطريقة التي كنا نفكر بها عندما كنتما في علم الغيب أنت وهي. لقد ولي الزمان الذي يختار فيه الأهل للأبناء، ثم إنها طبيبة وأنت لم تتعلم يا كسول.. قال رأفت ماذا تأخذ من طبها والبالطو والسماعات؟ أنا أعمل في إيطاليا بساعة ما تكسبه هي في شهر، وأعمل في عام ما يمكن أن تجنيه من وظيفتها أبد الدهر. قال أبوه سعيد: هذا هو عهدي بك دائمًا قليل العقل كما أنت ولو صارت معك الفلوس ملء نهر. وأنشده من شعر بهاء الدين زهير: ما العَقْلُ إلاّ زينَة ٌ سبحانَ مَن أخلاكَ منْهُ قسمتْ علي الناس العقولُ وكانَ أمراً غِبتَ عَنهُ قال رأفت يا أبي العقل أيضًا ليس شيئًا واحدًا، وما كان عقلاً في أيامك نراه نحن قمة الجنون. ماذا تريد فتاة اليوم أكثر من زوج غني وحنون؟ ألم تكونوا تقولون في زمانكم "الراجل ما يعيبوش إلا جيبه"؟ ثم إنه وعد أباه أن يفاتح أمل بنفسه، ولم يكذب خبرًا. وفي يوم من الأيام وجدته أمامها في المستشفي، فسألته ما أتي بك، هل أنت مريض؟ قال علي لسان الشاعر عبدالغفار الأخرس: أتراكَ تعرفُ عِلتي وشفَائي يا داءَ قلبي في الهوي ودوائي فاحمرت وجنتاها وارتعشت شفتاها، وتذكرت كل ما كان بينها وبين فتاها، وفاجأها الولد اللعوب بقول أمير الشعراء شوقي: الله في الخلق من صَبٍّ ومن عاني تفني القلوبُ ويبقي قلبكِ الجاني صوني جمالكِ عنا إننا بشرٌ من التراب، وهذا الحسنُ روحاني وفي لمحة عين عادت إلي ذاكرتها أيام الطفولة البعيدة، عندما كانا لا يفترقان. وقالت لم لا؟ إنه شريك طفولتي وأيامي السعيدة، وها هو أصبح فتي حلوًا، يعرف كيف يتأنق وكيف يجامل، ما الفرق بين أن يكون طبيبًا أو صانع بيتزا؟ وتتابعت لقاءاتهما، ثم فاتحها في رغبته الزواج منها، وأخبرا أسرتيهما، فتهلل الصديقان مسعد وسعيد وتذاكرا عهدهما في صباهما البعيد، وأسرعا بإعلان خطوبة أمل ورأفت وبدأت ترتيبات الزفاف، ثم سافر العروسان شهر عسلهما في الغردقة، وسرعان ما انقضت الأيام وسافر رأفت علي أن يقوم بترتيبات لسفرها كي تلتحق به في روما، ولكن شهرًا انقضي وراء شهر، وكان في البداية يكلمها صوتًا وصورة عبر سكايب، ثم أصبح يكتفي بمكالمة سريعة من التليفون ثم تباعدت المكالمات، وعاد إلي الاختفاء مثلما اختفي في بداية سفره، وظلت أمل هكذا معلقة، لا متزوجة ولا مطلقة، وكانت إذا خلت إلي نفسها تنعي حالها، كما قال في ذلك إبراهيم ناجي شعرًا: ما أَسْخَفَ الوحدةَ الكبري وأضيعهَا إذا الهواتف قد أرجعن ما فاتا بَعثن ما كان مطويّاً بمرقدهِ ولم يزَلْنَ إلي أن هبَّ ما ماتا تلفَّتَ القلبُ مطعوناً لوحدته وأين وحدته؟ باتتْ كما باتا! حتي إذا لم يجدْ ريّاً ولا شبعاً أفضي إلي الأمل المعطوب فاقتاتا! عاشت أمل علي أمل هزيل بعودة الحبيب الضال، وفي يوم من الأيام عاد فجأة مثلما سبق واختفي فجأة، لكنه كان تقريبًا حطام إنسان، لا يأكل ولا يستطيع أن ينام، قالت ما بك يا حبيبي. لكنه ظل شاردًا لا يجيب. ثم أدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.