قبل أكثر من تسع سنوات - في شهر مايو 2001 - نشر السيناتور جورج ميتشل، رئيس اللجنة الدولية حول الشرق الاوسط في ذلك الوقت، تقرير لجنته حول النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي. وكان هذا التقرير الرسمي يقع في 32 صفحة، وصدر بعد عمل استغرق ستة اشهر تم تكليفه به اثناء ولاية الرئيس الامريكي الاسبق بيل كلينتون عقب اندلاع انتفاضة الاقصي. وتولي ميتشل تسليم الرئيس جورج بوش الابن واركان ادارته نسخا من التقرير في الاول من شهر مايو عام 2001. طالب ميتشل في ذلك التقرير بتجميد كل الانشطة الاستيطانية التي تقوم بها اسرائيل بما في ذلك توسيع المستوطنات المرتبط بالنمو الديموجرافي - السكاني - الطبيعي. وكان الشيء الوحيد المطلوب من الفلسطينيين - حسبما ورد في التقرير - هو بذل كل الجهود لمنع العنف و»السيطرة علي تحركات العناصر ذات التوجهات الارهابية وعدم السماح باطلاق النيران علي المواطنين الاسرائيليين من المناطق الآهلة بالسكان«. وعلي الفور اعلن وزير خارجية فرنسا في ذلك الوقت »اوبير فيدرين« ونظيره النرويجي »ثور بجورن جاكلاند« (عضو لجنة ميتشل) دعمهما للتقرير، ووجها التهنئة للجنة التي اصدرته، كما دعا السكرتير العام للامم المتحدة في ذلك الوقت »كوفي عنان« الي اعتماد توصيات لجنة ميتشل. وكما هو معروف فان الفلسطينيين - سواء في الضفة الغربية او قطاع غزة، لا يمارسون اي عنف الان ضد المحتلين الاسرائيليين.. فقد توقفت المقاومة وكل شيء هادئ غير ان النشاط الاستيطاني او التهويد لم يتوقف يوما واحدا. الغريب في الامر ان وزير الدولة الاسرائيلي في ذلك الوقت »داني نافيه« صرح بان تقرير ميتشل يشكل محاولة ايجابية وبناءة لوضع حد لدوامة العنف وان حكومة شارون تعهدت بعدم اقامة مستوطنات جديدة وكان التحفظ الاسرائيلي الوحيد يدور حول ما يسمي بموجبات النمو الديموجرافي الطبيعي لسكان المستوطنات القائمة. والمعروف ان رئيس الوزراء الاسرائيلي الاسبق اريل شارون هو اكثر القادة الاسرائيليين عدوانية ودموية وكراهية للشعب الفلسطيني. بعد اكثر من تسع سنوات من التسويف والمراوغات والمماطلات والمفاوضات المباشرة وغير المباشرة.. تعلن الادارة الامريكية عن فشلها في اقناع اسرائيل بوقف الاستيطان وفي نفس الوقت تطالب الفلسطينيين بالعودة الي المفاوضات غير المباشرة او المتوازية في ظل استمرار الاستيطان ومصادرة الاراضي الفلسطينية والتهويد وهدم منازل الفلسطينيين! وها هو جورج ميتشل نفسه يقدم ورقة للجانب الفلسطيني حول القضايا التي سيتم بحثها في المفاوضات التي تريد واشنطن من الفلسطينيين العودة اليها وتتضاعف الدهشة عند قراءة هذه الورقة التي تحتوي علي ست نقاط. وسرعان ما يكتشف القارئ انها خدعة امريكية جديدة لكسب الوقت لصالح الاستيطان والتهويد وللضحك علي عقول الفلسطينيين. تشير الورقة الامريكية الي ان الهدف من المفاوضات هو التوصل الي اتفاق بشأن الحدود.. ولكن.. أي حدود؟ هل هي الحدود التي سيقررها رئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو أم الحدود التي تتفق مع قرارات الشرعية الدولية »حدود الرابع من يونيو عام 1967«؟ وتقول الورقة الامريكية ان المفاوضات سوف تتناول ترتيبات أمنية متفق عليها مع الجانب الاسرائيلي.. ولا كلمة واحدة حتي عن الاقتراح الامني الذي صاغه الجنرال الامريكي السابق جيمس جونز، ويؤكد انه لا تواجد لأي جندي اسرائيلي في الاراضي الفلسطينية بعد قيام الدولة الفلسطينية. وتعرف الادارة الامريكية ان نتيناهو يطالب بضم اكثر من نصف الضفة الغربية الي اسرائيل بما في ذلك غور الاردن، ولكنها تتجاهل ذلك كله وتعرف انه لا يريد دولة فلسطينية ولكنها تتجاهل ذلك ايضا. اما فيما يخص المستوطنات، فان الورقة الامريكية تتحدث عن تحديد مصير المستوطنات الاسرائيلية.. ولا كلمة عن عدم شرعية الاستيطان من اساسه،.. ثم.. »حل منصف ومنطقي لقضية اللاجئين« دون اي اشارة لقرارات الاممالمتحدة حول هذه القضية وفي موضوع القدس، تدعو الورقة الي التوصل الي اتفاق بشأن القدس»!« كما تدعو الي تقرير حصص المياه! ومعني ذلك ببساطة ان الادارة الامريكية تترك القرار - في كل تلك القضايا - في يد اسرائيل.. وما علي الفلسطينيين سوي الاذعان والانصياع حيث ان موازين القوي لصالح دولة الاحتلال التي تعمل منذ سنوات طويلة علي فرض الامر الواقع بدعم عسكري واقتصادي ومالي وتكنولوجي ودبلوماسي امريكي. وليس من المستبعد ان المسعي الامريكي يستهدف تحميل القيادة الفلسطينية مسئولية الفشل وتبرئة الحكومة الاسرائيلية فالادارة الامريكية تصر علي ان يتفاوض الفلسطينيون مع نتنياهو بشروط الاخير وبلا مرجعية علي الاطلاق لهذه المفاوضات، وتعتبر - في ورقتها - انه سيتم الانتقال الي مفاوضات مباشرة في الوقت الذي تراه واشنطن مناسبا! هنا يتضح، بما لا يدع مجالا للشك، ان الادارة الامريكية تريد ان تحقق لاسرائيل المزيد من المكاسب المادية بما يعزز قدراتها العسكرية والامنية، وبما يكرس الوقائع التي تفرضها علي الارض، وانها تعرقل التوصل الي تسوية شاملة وعادلة للنزاع. ولكي يتم احكام الحصار السياسي علي الفلسطينيين ودفع ظهورهم الي الحائط وارغامهم علي الاستسلام لنتنياهو وحكومته الفاشية العنصرية المتطرفة اتخذ مجلس الشيوخ الامريكي قرارا بالاجماع - في خطوة مفاجئة - برفض اعلان الدولة الفلسطينية من جانب واحد ودعوة الادارة الامريكية لاستخدام الفيتو في مجلس الامن ضد اي تحرك دولي في هذا الاتجاه. هكذا انكشفت نوايا امريكا وحقيقة موقفها. وجاء هذا القرار في الوقت الذي تستعد فيه السلطة الفلسطينية لاتخاذ هذه الخطوة عقب الفشل الامريكي في وقف الاستيطان. وهكذا يتعمد الامريكيون سد جميع المنافذ امام الفلسطينيين واحباط اي تحرك سياسي - دبلوماسي يضمن لهم الاحتفاظ بحقوقهم بل ان مجلس الشيوخ الامريكي يعلن معارضته القوية لاعتراف الدول الاخري بالدولة الفلسطينية. وكل ذلك يتناقض مع المبادئ التي علي اساسها كانت الادارة الامريكية »راعيا« و»وسيطا« لما سمي بعملية السلام ويفرغ المؤسسات الدولية من مسئولياتها الاخلاقية، ويوجه ضربة لجهود المجتمع الدولي ومؤسساته القانونية، علي حد تعبير البيان الصادر عن حركة »فتح« الفلسطينية. وهكذا نجحت الحكومة الاسرائيلية في قلب المعادلة وصارت تضبط ايقاع السياسة الخارجية الامريكية وتوظيفها في خدمتها. لقد تأخر الوقت الذي كان ينبغي ان تطرح فيه علامة استفهام كبيرة علي الدور الامريكي في القضية الفسلطينية حتي بعض المحللين الاسرائيليين اصبحوا يطرحون اسئلة جديدة. يقول الون مروم في صحيفة معاريف الاسرائيلية: الولاياتالمتحدة تستفيد من استمرار الصراع العربي - الاسرائيلي.. اقصي فائدة حيث ان تخويف العرب من العدوان الاسرائيلي يضمن سيطرة النفوذ الامريكي وبيع السلاح بعشرات المليارات من الدولارات. والكثيرون من المعلقين الاسرائيليين اعربوا عن ذهولهم من حزمة الحوافز والامتيازات الامريكية المعروضة علي اسرائيل: موافقة امريكية علي وجود اسرائيلي دائم في غور الاردن حتي في التسوية النهائية - ضمان تفوق عسكري اسرائيلي الي اجل غير مسمي - فيتو امريكي في مواجهة اي خطوة دبلوماسية مضادة لاسرائيل - تفاهمات بعيدة المدي تتعلق بالترسانة النووية الاسرائيلية - طائرات »الشبح« وثمنها ثلاثة مليارات، هدية مجانية لاسرائيل. وكتب المعلق والكاتب الاسرائيلي »ايلي بوديه« في صحيفة »هآرتس« يقول ان الرئيس الامريكي اوباما لم يضغط علي اسرائيل رغم ان حكومة نتنياهو هي المسئولة عن الفشل الاخير، ورغم انه يعلم ان الابقاء علي الامر الواقع هو المفضل بالنسبة لاسرائيل التي لا يوجد لدي شعبها وحكومتها اهتمام حقيقي بالسلام. وقال المحلل الامريكي »روبرت رايت« في الطبعة الدولية لصحيفة »هيرالد تريبيون« الامريكية انه ليس صحيحا ان امريكا والاممالمتحدة لا تستطيعان فرض تسوية لانهاء الصراع في الشرق الاوسط، كما زعمت وزيرة الخارجية الامريكية واضاف ان الاممالمتحدة هي التي اوجدت دولة اسرائيل قبل ستة عقود وهي تستطيع خلق دولة فلسطينية الآن، وان تقرر حدودها وتضع جدولا زمنيا لتنفيذ هذا الهدف. كما لو كان هذا المحلل الامريكي يريد ان يقول ان المشكلة الحقيقية هي ان امريكا واسرائيل ترفضان رفضا مطلقا تحقيق هذا الهدف رغم كل المزاعم والادعاءات والتصريحات الجوفاء.