يحمل المستقبل مسارا مستحدثا لمهنة المحاماة، يجدد الدور الاجتماعي الخطير الذي تحتله تلك المهنة، وتأثيرها الايجابي لنفع المجتمع ومنع السلبية الغاشمة عن مجتمع ينقصه الوعي بحقوقه وواجباته، متأرجحا بين النصيحة الجاهلة، وبين خطأ المغامرة الطامعة، والمجازفة الخادعة التي يشغلون بها قاعات العدل، وسبب ذلك الجهل بالقوانين، والاستخفاف بالعقول، والاستهتار بسيف القضاء القاطع، والمقيد بالرحمة مع المخطيء، ربما بغير انصاف تعويضي رادع لضحيته، يتناسب مع القلق وضياع وقت الفرد والجماعة، بدلا من التفرغ الي أنواع من الانتاج، أو حتي الابتهاج، بعذوبة الحياة ومتعتها. ولو تنبه المحامون لذلك الدور وأهمية موقعهم من المجتمع، لانصرفوا الي التخطيط لمستقبل دورهم المتشابك مع مستقبل الوطن، واستبدلوا الفوضي بالنظام، فالمحامي في ساحة العدل له أهمية الطبيب في جنبات المستشفيات وكلاهما يعمل لمصلحة المريض والموكل. فالطبيب يعمل علي منع المرض واسترجاع الطبيعة، والتدخل عند اللزوم للقضاء علي مصدر الداء بجراحة يستأصل بها الاورام، والمحامي يساعد القاضي للقضاء علي مصادر الجور والاجرام، ومعا، يعتبران »حضّانة« للتشريع السليم. ومثلما يتخصص القضاة لتحري صحة الحق، وتحقيق العدل، كذلك يجب علي المحامين البادئين أو الراغبين في اتقان مهنتهم، أن يتخصصوا في مختلف مصالح المجتمع، حتي يسهل عليهم التخاطب القانوني عن ادراك وبصيرة، وذلك هو السبب في اصرار القضاة علي حضور محام، وعدم الارتكان علي اجتهاد الخصوم تماما كالعلاقة بين محطات الاذاعة التي ترسل علي موجات معينة يستقبلها المستمع اذا جاء علي نفس الموجة، وإلا ذهب البث ادراج الرياح بلا مستمع يتلقاه. فمعارف طرفي التقاضي يجب أن تتكافأ، وتقف علي قدم المساواة من الدراية، حتي تصل معاني المرافعة واضحة وصريحة لمن يستقبلها علي المنصة. وفي هذا المقام نذكر قيمة التخصص الذي يجب ان يعتنقه المحامون الحريصون علي مصالح موكليهم، أو عملائهم الذين يسعون وراء استشاراتهم القانونية، قبل ان يقدموا علي عمل قد يجرهم الي خلاف يقتضي دخولهم في دائرة التقاضي، بل هناك بعض كبار المحامين الذين لم يدخلوا المحاكم علي الاطلاق، بسبب تخصصهم الرفيع ودرايتهم الواسعة. مثال »شالون CHALONS« احد المحامين بالاسكندرية الذين تخصصوا في القانون البحري، وكان يتقاضي اتعابا باهظة - فيقول: »ان العقد الذي أحرره يخيف طرفيه من الالتجاء الي القضاء«! وهكذا، يجب ان يكون عليه المحامي، فهو ليس مجرد ممثل يجوب قاعات المحاكم، وإنما هو معاون علي النظام والسلام الاجتماعي، بشرط أن يخوله التشريع بأن توضع جميع التصرفات بين الافراد والجماعات، وبين الهيئات بجميع أنواعها، محررة بواسطة محام متخصص، ومعترف بتخصصه نقابيا، كشرط لنظرها بالمحاكم، حتي يُحسن اصحاب الحق اختيار المحامين، فليس في مقدورهم ان يختاروا جهة التقاضي، أو يكون اختيارهم بحسب درجة الترافع أمام المحاكم، سواء ابتدائية أو استئنافية أو ادارية أو نقضا. مثال ذلك العقود المبرمة بين الافراد فيما يتعلق بالوصايا والهبات والمرتبات مدي الحياة والتنازل والبيع والشراء والاقتراض، ومشاكل الاسرة وغيرها، كذلك عند التعامل مع الهيئات، كالتأمين بأنواعه، والمقاولات والرهون والضرائب، والعمل والمشروعات المتخصصة، وبراءات الاختراع والملكية الفكرية والتجارية والصناعية، والمشاكل الاجتماعية العامة البعيدة عن العمل السياسي. وينقسم ذلك الي مرحلة العرض الاستشاري، ومرحلة تحرير العقود، ومرحلة التقاضي اذا لزم الامر - بما فيها اجراءات التنفيذ، وذلك يعادل نظام التقاضي في بريطانيا، بأنه يجب علي المتقاضي ان يمر، بقوة القانون، علي استشاري solicitor لأخذ رأيه السلمي في القضية قبل ان يقترح المحامي المتخصص للمثول أمام القضاء Barrister حتي لا تكتظ المحاكم بالتقاضي الاجوف!.. وللحديث بقية. كاتب المقال رئيس الجمعية المصرية لرعاية مرضي السكر