على حلبى أشعر بدوار خفيف يملأ رأسي، فالأرض تقترب مني فجأة ثم تبتعد كالموج في ليلة شتاء مقمرة، أو كمن يرتدي نظارة مقعرة لمريض يعاني من قصر النظر، أما الأنوار الممتدة فتتلاعب أمامي كحيات صغيرة تتراقص، وطنين متزايد كأجراس مدينة بأكملها تعلن عن موتاها يفقدني أعصابي ويطمس أذني ثم.. الشبح الأسود يحيط بي من كل اتجاه، يا إلهي.. بالكاد ليس هذا أحد أحلامي المفزعة التي اعتدت عليها فأصبحت جزءا مني، وليس أيضا أحد نوبات يأسي التي ألجأ فيها إلي خيالي ليروي ظمأ حرماني من الواقع، تري ماذا يكون هذا الإحساس المخيف الذي تنتفض معه كل حواسي، أخاف الإبحار فيه فأنا حديث العهد به ولا أدري إلي أي عمق سيأخذني، أشعر بحيرة وجنون د. شريف بطل الفيل الأزرق أثناء رحلاته إلي العالم الآخر، ولكنني لم أتجرع أي حبات مخدرة حتي أرتحل إلي عوالم أخري، إذن يبدو ان الأمر حقيقي، يبدو انني علي وشك الموت، لقد بدأ السائل الساخن ينسكب الآن من ثناياي، لم أعد أقوي علي الوقوف، أشعر بالرغبة في الراحة، الاستلقاء، جفوني مثقلة لم أعد قادراً علي فتحها وكأني في مواجهة مباشرة مع الشمس وهي في كبد السماء، لا أري الآن سوي السواد وخيالات أصدقائي تقترب مني، وكثير من الأيادي تصفعني برجاء ألا أفقد الوعي، ألا أذهب في غياهب الموت المريعة، »الحمد لله صليت العصر حاضرا« الآن أرغب في الرحيل وأنا مطمئن، لا لا فلتنتظر ايها الموت قليلا، فدائما ما اشتقت إليك ورجوت أن تزورني في ليالي الفجر القاسية ولكني اليوم أتوسل إليك أن تمهلني قليلا من الوقت، أريد أن أبوح ببعض أسراري، أريد أن تردد كلماتي بعد مماتي، تتسلل إلي أذني الآن ألحان أغنية يا بلادي مخترقة صفوف الجنود المدججين بالجهل والمكبلين بأوامر قهرية، متجنبة طلقاتهم الطائشة، مختنقة بغازهم المسيل، حتي خيل لي انها تبكي، أتبكيني أنا؟ أم تبكي بلداً بأكمله، أصبح عقلي يعمل بسرعة ألف لفة في الدقيقة، فهو يعلم ان الوقت قصير ولم يتبق لي في الحياة إلا دقائق معدودة، أصبحت صور حياتي متداخلة ما بين ذكريات مختلفة وتصورات لما سيحدث بعد رحيلي، أتخيل فزع أمي عندما يأتي إليها الخبر المشئوم، ستتألم كثيرا لفراقي، سترتدي السواد لباقي عمرها ستحاول الانتحار بلاشك، ستتذكرني في كل وقت وتحافظ علي غرفتي نظيفة مرتبة وتنتظر بهدوء عودتي كل مساء، أشفق عليك كثيراً يا أمي، وأبي هل سيكف عن مساندة أفكار الاخوان، هل سينهار أم سيظل صلبا كعادته، أعلم انه سيدعو لي في كل صلواته، أما حبيبتي فلن تعلن عن حزنها فلم أتمم خطبتي بها حتي الآن، ولكني أعلم ان قلبها سيتفتت لباقي حياتها، ستقسو علي نفسها كثيراً ولن تنساني يوماً، سيعرف الآن أصدقائي غير المهتمين بالسياسة ما معني كلمة شهيد، سيعلمون الآن ان حق الشهيد ليست مزايدة علي الثورة، وليست اتجاراً بها، أما أصدقائي في حركة 6 ابريل فسيمجدون اسمي، لن يتركوا دمي يضيع هباء، سينضم اسمي إلي قائمة طويلة من الشهداء نالت قبلي شرف الدفاع عن الوطن بدمائها، ها أنا أري كريستي وجيكا والجندي وغيرهم من الشهداء يظهرون أمامي بثيابهم البيضاء النقية ووجوههم النضرة، ينتظرون انضمامي إليهم، يطمئنوني بابتسامة واسعة. الصدمة ها أنا انتظر أن يظهر لي ملك الموت، ولكني أتعجب فمازال عقلي يعمل، ماذا يعني ذلك، هل تم انقاذي ولم أحقق حلمي في الشهادة؟، فجأة ودون مقدمات امتدت يد تهزني »يا أستاذ فوق احنا وصلنا لآخر الخط« فتحت عيني في دهشة فقد غفوت لأكثر من ساعة داخل الميكروباص أثناء ذهابي لزيارة صديقي فؤاد رغم انه يقطن في نفس شارعي، فاكتشفت اني لم أمت ومازلت علي قيد الحياة، تنهدت الصعداء وبعد أن راجعت تفاصيل حلمي المروعة أمسكت بهاتفي وأخبرت حبيبتي أني أرغب في زيارة والدها لخطبتها، حتي تستطيع أن تعلن عن حزنها عند رحيلي وهو ما أصر عليه وأتمناه من الله. التضحية لا أعلم إذا ما كان سيتفق معي أحد أو لا في أن مصر بالفعل قوية بشبابها وعقولهم وتضحياتهم المستمدة من أجلها، لا أعلم إذا ما كان يشاركني أحد حلمي في الشهادة أم لا، ولكن ما كتبته اليوم هو بالفعل ما أفكر وأشعر به عند انضمامي إلي أي تظاهرة، فالموت والدماء من أقل التضحيات وإذا ما طلب مني ذلك سأقدمه وأنا سعيد.