من المهم في المرحلة التالية، أن تشكل نتائج الاستفتاء قاعدة انطلاق لوضع استراتيجيات التطور والنمو في الدولة، حيث أن الوصول والتعرف علي الإرادة الشعبية يعد في ذاته مرحلة تمهيدية لاستكمال مؤسسات الدولة وفق آليات الانتخاب والقواعد الدستورية التي صارت تعبر عن كيان الدولة. وفي غالبية النظم السياسية، تسود حالة من النقاش والجدال السياسي، وخاصة في الدول والبلدان التي تشهد حالة انتقال ومرحلة تحول ثوري، حيث تطرح الأحزاب والحركات السياسية رؤيتها للإصلاح السياسي والتنمية الاقتصادية. وبغض النظر عن تباين وجهات النظر بشأن المحتوي الاقتصادي في الدستور، فقد تضمن الدستور مستويات مختلفة للتنمية الاقتصادية، لكنها بشكل عام، تتركز حول دولة الرعاية الاجتماعية وإطلاق الفرص والمبادرات الفردية والمشروعات الصغيرة والادخار وتوسيع خريطة الاستثمار، وهذا ما يعطي نوعا من المرونة في صياغة السياسة الاقتصادية. ومن هنا ، يعد التوازن ما بين السياسات الاجتماعية وتصحيح النظام الاقتصادي، وتحقيق هذا التوازن يتطلب حزمة من الشروط السياسية اللازمة لنجاح السياسة الاقتصادية، ويأتي في مقدمتها تضافر المحفزات الاجتماعية والأمنية للنشاط الاقتصادي، ومن ثم يمكن التركيز هنا علي تدشين حوار اقتصادي حول المسارات الممكنة للتنمية والتي تتصدي لمشكلات البطالة والتشغيل وتصحيح هياكل الإنتاج وتنشيط قطاع الخدمات. وبغض النظر عن القول بتحسن مؤشرات الاقتصاد الكلي خلال السنوات الماضية، فإن الأوضاع الاقتصادية فترة ما بعد اندلاع الثورة وصياغة الدستور صارت تتطلب اتخاذ سياسات اقتصادية بعيدة المدي للخروج من الأزمة المالية والعجز المزمن وتباطؤ تحسن قطاعات؛ الخدمات والإنتاج، وهو ما أدي لحالة استنزاف الاحتياطيات النقدية، ومع ندرة دخول الاستثمار الأجنبي تتجه الدولة للاعتماد علي القروض والمنح الأجنبية والاهتمام بتكوين بيئة جاذبة للاستثمار. وهناك اتجاه يذهب إلي لجوء مصر للاقتراض عبر صندوق النقد الدولي سوف يؤدي لضعف الحكومة عن المناورة والتوصل لشروط أفضل، خاصة أن الاتجاه الأساسي يميل لتمويل عجز الموازنة وتوجيه جزء من القرض للاستثمار، وعلي أية حال، سوف يشكل القرض عبئا علي السياسة المالية بشكل يؤثر علي الرعاية الاجتماعية، ولعل طرح وتبني سياسة انكماشية سوف يدعم برامج الإنعاش الاقتصادي. وفي ظل الواقع الاقتصادي للدولة والنظام الدستوري الجديد، تواجه الحكومة تحدي تكوين سياسة اقتصادية بديلة عن التوجهات الليبرالية الجديدة التي أدت لتشوه واقع العدالة الاجتماعية واختلال توزيع عوائد التنمية، وهذه النقلة سوف تتطلب وضع استراتيجية للتنمية تعيد الاعتبار للسياسات الاجتماعية وترشيد الدعم وزيادة الوظيفة الاقتصادية للدولة ومراعاة الفئات الأقل دخلاً. ولكنه مع إدراك تزايد الأعباء الاقتصادية علي الدولة وتشوه هياكل الإنتاج، يصير من الضروري اتخاذ تدابير وتدشين برنامج للإنعاش الاقتصادي وتوفير الحدود الملائمة للأمن الاجتماعي وتلبية المطالب الفئوية ضمن سياسة انتقالية للأجور لأجل خفض نسبة التفاوت الاجتماعي ومكافحة الفقر، والعمل في ذات الوقت علي توفير البدائل المحلية للاقتراض من الخارج ووضع استراتيجية طويلة الأجل لسد الديون المحلية تجنبا لحدوث ركود اقتصادي. وإذا كان نقص الحوار الاجتماعي والنقاش حول مسارات حل الأزمة الاقتصادية، يشكل تحديا لصياغة السياسة الاقتصادية، فإنه يمكن القول أيضا أن استكمال الحوار السياسي وتكوين المؤسسة التشريعية، سوف يكون مقدمة ضرورية لمعالجة الظواهر المتناقضة في هذه الفترة والتي صارت تشكل معضلة في مصر بسبب نشأة زيادة التوتر الاجتماعي والاستقطاب السياسي.