جناح المستشفى بداخله اسر الشهداء قطعاً هي لحظات قاسية لا يتحملها قلب ولا عقل أي إنسان، فما بالكم بأم.. فجأة وبلا مقدمات، وفي لحظة تفقد أبناءها الأربعة. لم تتخيل وهي توقظهم من النوم مع نسمات الصباح الأولي ليتوجهوا إلي مدرستهم أو وهي تعد لهم طعام إفطارهم أو تجهز لهم سندوتشات المدرسة أو حقائبهم، أن القدر يخبئ لها ولهم كارثة. شيء غريب جعلها تحتضن أولادها الأربعة وهي تودعهم عند باب المنزل، وهي لا تعرف أنه بعد أقل من نصف ساعة فقط سوف يدخل عليها شقيقها ليخبرها أن أولادها الأربعة »أروي وريم ونور وأدهم« راحوا ضحية الإهمال والفساد، اغتالهم القطار وهم في طريقهم للمدرسة علي مزلقان الموت. لحظات ويتحول المنزل الهادئ إلي بركان.. ذهول تام يصيب الأم، تخرج مسرعة الي مكان الحادث.. منعها الأهل مشفقين عليها، فمشهد الأطفال الصرعي لا يتحمله قلبها الضعيف.. هرولت مسرعة وهي تصرخ، وعندما وصلت الي المستشفي لم تتحمل المشهد.. انهارت بين دموعها وقلبها يصرخ.. آه يا ولادي.. إنها لن تلتقي أولادها بعد الآن، وأبعدها الأهالي والأخ بعيدا، ولكنها استمرت في البكاء والعويل، وهي غير مصدقة أنها لن تضمهم.. لن تشتَم عبيرهم. يعلو الصراخ وتنفجر دموع من ضاعت فلذات أكبادهم جميعاً، الأبناء الأربعة كل ما خرجت به من الدنيا هي وزوجها. لحظات قاسية، الأم الثكلي تكاد تفقد عليها فقد ضاع أولادها جميعا في لحظة.. لا يكفي أي رثاء أو مواساة في تخفيف الصدمة، وما بين الصمت التام والبكاء بلا انقطاع، كانت حالة الأم تتأرجح.نساء القرية يتجمعن في المنزل الذي تحول الي سرادق، الكل في واد والأم في واد آخر، تسرح مع دموعها وذكرياتها.. عيونها زائغة تنظر إلي كل ركن بالمنزل.. هنا كانت تلهو أروي، وهنا كانت تمرح نور، وهناك يذاكر أدهم.. وتلعب ريم. لحظات قاتلة خاصة بعد أن فرغ الأهل من مواراة الضحايا في مثواهم الأخير. يعلو صوت الأم »ولادي ولادي« علي أمل، ولكنه أمل واه، فقد ذهبوا إلي جوار ربهم وتركوها وحدها. تفقد الأم الوعي.. تنتبه ثم تعاود الهذيان مرة أخري.. يسرع الأهل باستدعاء الطبيب ليوصي بنقلها إلي مستشفي متخصص للعلاج قبل أن تتدهور الحالة. الطبيب يوصي بسرعة النقل لمستشفي الأمراض النفسية قبل أن تصاب الأم بانهيار عصبي شديد قد يودي بحياتها، فهي لن تنسي المشهد في لحظات الفراق الأخيرة قبل خروجهم من المنزل ولا لحظات خروجها في ذهول تبحث عنهم ولا تعثر عليهم. لزمت الأم الصمت التام وامتنعت عن الطعام، علي عجل تسرع سيارة الاسعاف بها الي القاهرة، المكان الوحيد القادر علي العلاج مستشفي متخصص في مثل تلك الحالات الصعبة من الانهيار النفسي. عند فجر أول أمس، كانت الأم علي سرير المرض في مستشفي الأمراض العصبية والنفسية بالعباسية تعاني من مرض »كرب ما بعد كارثة« وهي حالة يعرفها الأطباء النفسيون، يصاب بها الأشخاص في أعقاب التعرض لحوادث كوارث كبيرة لهم أو لذويهم. مظاهر الحالة والإصابة تتمثل في كثرة البكاء والأرق والامتناع عن الطعام والشراب، وهي نفس حالة الأم التي دخلت في صمت تام ترفض الحديث وتصاحبها حالة من الاكتئاب الحاد. العلاج كما وصفه د.مصطفي حسين، مدير مستشفي الأمراض النفسية، يحتاج لدعم نفسي وهو ما تم بالفعل. خضعت الأم الثكلي لجرعة منومات لتنام فترة طويلة حتي تهدأ وليبدأ العلاج، وكان القرار أن يتم منع الزيارة أو التعرض لما يذكرها بالحادث أو تداعياته. بعد 42 ساعة كاملة بدأت الأم تستعيد الوعي وتتحسن الحالة وتعاود تناول الطعام، وأكد مدير المستشفي أن الأم سوف تعود لحالتها الطبيعية خلال فترة قصيرة.