اليوم أول السنة الهجرية .. كل عام وأنتم بخير.. كل عام .. ولسبب غير مفهوم يتناول المتحدثون في هذه المناسبة، أحداث هجرة النبي صلي الله عليه وسلم من مكة إلي المدينة، ويتطرقون إلي تفاصيل رحلة الهجرة وما جري فيها، ويعرضون الدروس والعبر المستفادة من تفاصيلها. وتتباري محطات التلفزيون في عرض الأفلام والبرامج الخاصة بالهجرة، ويتطرق كثيرون إلي أمور لم ترد أثناء الهجرة - أو قيل إن الروايات الخاصة بها ضعيفة- كالحمامة التي عششت والعنكبوت الذي بني بيتًا علي باب غار ثور، وقد قال تعالي "وأيده بجنود لم تروها"، بينما الحمامة والعنكبوت مرئيان. وقد شاءت العناية الإلهية حفظ النبي وصاحبه بأن أعمي أبصار من تتبعوه رغم عدم وجود مانع أو ساتر بدليل قول أبي بكر رضي الله عنه "لو نظر أحدهم إلي قدمه لأبصرنا"، فيرد عليه الرسول عليه السلام: ما ظنك باثنين الله ثالثهما. وقد سبق أن أعمي الله أبصار قريش حين ترصدت للنبي أمام بيته، ومع ذلك خرج من بين أيديهم دون أن يمسوه. قد يكون من المناسب الحديث بمناسبة بداية العام عن جرد حساب العام الذي مضي، وماذا حققنا فيه وما ضاع منا، وماذا نعتزم أن نفعل في العام الجديد بحيث ننمي جوانب الخير ونقلص جوانب الشر، أما الحديث عن الهجرة فلا مجال له هنا اليوم.. لسبب بسيط وهو أنه لا علاقة بين بداية العام الهجري وحادثة الهجرة. الهجرة لم تتم في شهر المحرم حتي نتحدث عنها مع قدوم المحرم والسنة الجديدة، وإنما كانت في شهر ربيع الأول. قال ابن هشام وابن إسحاق وهما من أشهر من جمع سيرة النبي صلي الله عليه وسلم إن الهجرة كانت " لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين"، وقال الواقدي وغيره: "لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول". فإن أراد أحد الحديث عن الهجرة فليكن ذلك في شهر ربيع الأول، وهو شهر مولده، ووفاته صلي الله عليه وسلم. أما التقويم الهجري فهو أمر مختلف، فقد بدأ العمل به في السنة السادسة عشرة أو السابعة عشرة من خلافة عمر بن الخطاب، أي بعد الهجرة بثمانية وعشرين أو تسعة وعشرين عاما (مكث النبي في المدينةالمنورة عشر سنوات من الهجرة حتي وفاته، وخلفه أبوبكر الصديق لمدة سنتين وأربعة أشهر ثم تولي عمر). وحين أراد الصحابة التأريخ كانت أمامهم اختيارات أربع: مولد الرسول عليه السلام، ومبعثه، وهجرته، ووفاته، فاستبعدوا المولد والبعثة لأن الأمر لا يخلو من نزاع في تحديد السنة، حيث لم يكن عند العرب تقويم معروف، وأما وقت الوفاة فاعرضوا عنه لما يسببه من الأسف علي رحيله صلي الله عليه وسلم (لاحظ الفرق بين تفكير الصحابة وتفكير الشيعة الذين يصرون علي الاحتفال بذكري وفاة الأئمة وبخاصة مقتل الحسين رضي الله عنه، وذكري أربعينيته). وهكذا انحصر أمر التقويم في الهجرة. ثم قالوا: من أي الشهور نبدأ؟ فقال البعض: من رمضان، ثم قالوا: المحرم فهو الشهر الذي ينصرف الناس فيه من حجهم، وهو شهرٌ حرام، كما أنه أول شهور السنة عند العرب قبل الإسلام. وهناك من قال لأن ابتداء العزم علي الهجرة كان في المحرم، إذ وقعت بيعة الأنصار، التي هي مقدمة الهجرة، في أثناء ذي الحجة، فكان أول هلال بعد البيعة وبعد العزم علي الهجرة هو هلال المحرم. لو اختلط أمر المناسبتين علي العامة لهان الأمر، علي ما فيه من خطأ، لكن الخلط موجود عند كثير من الشيوخ والدعاة دون سبب يمكن تبريره.