حين عبرنا القناة كانت الشمس تتوسط كبد السماء، لكننا لم نشعر بلسعات أشعتها الحارقة أول ما يقفز من ثنايا الذاكرة حين يطل أكتوبر، وعلي مدي 93 عاماً، تلك اللحظة التي عبرت فيها القناة، بعد أن عبرها جيش مصر مُحرراً، وكأنه يأخذ بثأرنا جميعاً، عقب ست سنوات عجاف سود، فقد الكثيرون خلالها الأمل، لنستيقظ علي بيان العبور ظهيرة 6 أكتوبر الذي حفر في ذاكرتنا ما يصعب لآلاف السنين أن تمحوه. زيارة العُمر، كأنها كانت بالأمس، بعد كل هذه السنوات! سيناء التي كنت وجيلي لا نعرفها إلا علي الخريطة، في حصص الجغرافيا، الآن نتحرك فوق رمالها، وبين دروبها، بعد أن خضبتها دماء طاهرة، وتأكد للجميع »أن ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة«. كان الشعار يتردد في وجداني، وصحبي، حين أقلتنا الحافلات من أمام مقر منظمة الشباب المواجهة للنيل في قلب القاهرة إلي سيناء. يا إلهي ما كل هذه الأحاسيس والمشاعر المتداخلة، المتماوجة، المتمازجة: رهبة، فرحة، حنين، سعادة، فخر، ..، .. وكان كل شاب منا يتأمل المشهد الذي يقتحم التاريخ ويلتحم بالأفق البعيد، في صمت يتناغم مع جلال اللحظة. في صباح ذاك اليوم الصيفي من عام 4791، تحركنا مع بزوغ الشمس، وحين عبرنا القناة كانت الشمس تتوسط كبد السماء، لكننا لم نشعر بلسعات أشعتها الحارقة، من أثر فرحة غمرتنا عندما لامست أقدامنا الأرض المحررة. .......... أبطأت الحافلات في سيرها، حتي توقفت تماماً، بدأنا في الهبوط، وكأن كل واحد فينا نيل ارمسترونج رائد الفضاء الأشهر، أول من وضع قدميه علي سطح القمر، بل ربما فاق شعورنا كل الأحاسيس التي اجتاحت الرائد نيل! قلوبنا قبل أبصارنا شاخصة، تجول في جنبات المكان، وكأن همنا احتضان أقصي بقعة ممكنة، وضمها لصدورنا لنتوحد مع الأرض والسماء وما بينهما. .. فجأة ارتفع صوت جهوري صارم بالترحيب، وكأنه قادم عبر آلاف السنين، عميق، عمق المشهد الذي صار بلا أبعاد محددة، ليصعب مهما كان خيال أي منا رحيباً أن يستوعبه! ضابط شاب برتبة نقيب. قدم نفسه: اسمه، سلاحه، مهمته. رحب بالشباب »مستقبل الوطن وذخيرته« كما قال نصاً ثم تدفق حديثه جامعاً بين الفخر والنشوة، يختار كل كلمة بعناية شديدة، يبطئ أحياناً لاختيار اللفظ الأكثر دقة، وكأن حرفته البلاغة، لا القتال، ثم ما يلبث أن تنطلق الكلمات من بين شفتيه وكأنها دفعات متتابعة من مدفع سريع الطلقات! تحلقنا حوله في دائرة مفتوحة، أشار لخلفية المشهد قائلاً: أنتم الآن أمام إحدي النقاط الحصينة في خط بارليف الذي نسج العدو حوله الأساطير، حتي تتابعت تلك المواقع في السقوط خلال ساعات معدودات. بثقة بالغة تابع حديثه، وكان كثيراً مما قاله يتجاوز كل حدود خيالنا الخصب آنذاك، سرد ملخصاً للعديد من البطولات، الواحدة منها تكفي لملء مجلدات، مواقف مثيرة تصورنا حينذاك أنها سوف تغري كُتاب الدراما بصياغة سيناريوهات لأفلام ملحمية تنافس ما أنتجته السينما العالمية عن الحرب العالمية الأولي ثم الثانية، لنكتشف بعد كل هذا العمر أن أحلامنا كانت أقرب للسراب! انسابت كلمات الضابط عذبة رقراقة، كنهر تغذيه روافد بلا حصر. ........... وجرت تحت جسر العمر مياه كثيرة، سنوات، وعقود فصلتني عن تلك اللحظات، غير أن ما دار خلالها، أو معظمه، مازال محفوراً في الذاكرة، تماما كنقش أحسبه بارزا حيناً، وأكتشفه غائراً حيناً آخر، وفي الحالتين من المستحيل محوه! تفقدنا النقطة الحصينة بصحبة مرافقنا هالنا تجهيزاتها المهولة، المعدة ليستطيع المتحصنون بها البقاء فترة طويلة غير عابئين بحصار مفترض، لكن سقوطها السريع، هي وأخواتها كان كفيلاً بإسقاط ما هو أهم من خط بارليف ذاته: نظرية الأمن الإسرائيلي، وأسطورة الجيش الذي لا يقهر! علي مدي أكثر من ساعتين تحدث البطل الذي كان قدرنا، وقدره، أن يرافقنا في تلك الرحلة، لم يقطع استرساله خلال نحو 021 دقيقة سوي أسئلة مستفسرة أو استفسارات متسائلة، أعقبتها إجابات مركزة لكنها شافية لفضولنا. لم يتأخر مرافقنا في تقديم إجابة وافية، شرح، كشف، تذكر، أوضح، أشار، ... وفي كل الأحوال كانت كلماته تقطر صدقاً وشجاعة، لا سيما حين تصف مواقف رجال بواسل هانت حياتهم رخيصة فداءً وثأراً، حتي إنهم كما أكد مراراً كانوا يتسابقون أيهم يفتدي، وأيهم ينال شرف الشهادة قبل رفاقه، كلماته استدعت الدموع من مآقينا، غلبت معظمنا أكثر الأحيان، واستطاع البعض حبسها إلي حين، لكنها خانتهم وسالت في النهاية. قصة فريدة لم نستطع ونحن ننصت لتفاصيلها إلا أن نجهش بالبكاء الجماعي، كأننا في طقس يحتم ذلك علي الحضور، حتي محدثنا غلبته دموعه، فتوحدنا. ........... أشار الضابط إلي سلك من النوع الذي يستخدم في الاتصالات التليفونية، ثم قال: هنا استشهد.. صمت برهة، لمعت عيناه ببريق غريب، ثم واصل: كان ضابط إشارة، لم يكمل الثلاثين من عمره.. مرة أخري صمت وقد بدأ صوته في الارتعاش قبل أن يحاول استرداد رباطة جأشه بصعوبة، ويقول: يومها انقطع الاتصال بين إحدي الكتائب وقيادة اللواء التابعة له، طلب من القائد الإذن باستطلاع الأمر، والتصرف علي ضوء تقديره للموقف ميدانياً، انطلق من فوره تغمره سعادة ربما لم يره كل من يعرفه في الكتيبة عليها طوال فترة خدمته. من جديد يتهدج صوت محدثنا، ليتماسك، ويختم حكايته: انطلق في مهمته، أداها علي خير وجه، دفع حياته رخيصة، لم يفكر في زوجته الشابة، أو الجنين الذي تحمله بين أضلاعها، ....، ....، لقي ربه شهيداً. هكذا، في جمل تلغرافية خاطفة لخص بطولة تكفي تفاصيلها ومادتها الثرية لكتابة رواية طويلة تخلد بطلها وكاتبها في آن، أو لصناعة أحد أفلام الحرب التي يكتب لها الخلود. تطلع كل منا للآخر، ومرة أخري تتجمع في العيون أسئلة كالسحاب الكثيف تبحث عن إجابات تلعب دور المطر الذي يروي ظمأنا لمعرفة ما حدث بالضبط. تطوعت متسائلا: ماذا حدث؟ قطعت السبيل علي إجابة كادت تنساب، وأضفت بسرعة: ما المهمة التي أنجزها الشهيد البطل قبل أن يلقي ربه؟ تغيرت نبرة صوت مرافقنا، اكتسي وجهه بغلالة رقيقة من حزن نبيل، وانطلق يحكي: حين فقدت قيادة اللواء الاتصال بالكتيبة، كان لا بديل عن تجاوز الموقف البالغ الخطورة بأي ثمن، كان مطلوباً، وبسرعة، التيقن من تنفيذ كل المهام المحددة في الخطة، وكان للدقيقة ثمن باهظ في تلك اللحظات الحاسمة لمصير الحرب، بل قد تنقلب الأمور رأساً علي عقب إذا لم تؤد كل المهام كما هو مخطط لها، وقبل أن يحزم القائد أمره، خرج من بين صفوف المقاتلين صوت مشحون بالإصرار إلي درجة التحدي الذي لا يثني صاحبه خطر، انطلق بجملة كالرصاص: »يا افندم سيعود الاتصال فوراً، فقط انتظر أمراً بالتحرك«. تسارعت أنفاس الضابط، بدا انفعاله واضحاً للجميع، ثم واصل حديثه متحاملاً علي مشاعره التي جاشت حين وصل إلي ذروة حكايته: أصدر القائد القرار الصعب، وسط نيران المدفعية، وقصف جوي عنيف، مواجهات تصادمية بين المدرعات، وقتال متلاحم بين الأفراد، صدر الأمر لضابط الإشارة بالتحرك، في لحظة أقرب إلي مشاهد يوم القيامة، لكنه لم يهب الموقف، بل علي العكس كان يتقدم كأنه ذاهب إلي زفافه علي حبيبة العمر. رانت لحظة صمت قصيرة، ثم قال: بعد أقل من ساعة عاد الاتصال بين الكتيبة وقيادتها، لكن البطل لم يعد، ...، انشغل الجميع بسير العمليات وتنفيذ الخطة و... و... وعندما وصلنا إلي هنا.. لم يستطع أن يكمل جملته، احتبس صوته تماماً، اغرورقت عيناه بدموع، إلا أنه غالب حزنه، ومضي يكمل: وجدنا الشهيد علي صورة لن يستطيع الدهر مهما طال بي الأجل أن يمحوها، يبدو أن العدو رصده قبل أن يتم مهمته، واستهدفته نيران غادرة، أصيب إصابة قاتلة أفقدته القدرة علي الحركة، لكنه ضغط علي طرفي السلك المقطوع بفكيه، واستمات عليه حتي يعود الاتصال، ويضمن استمراره، وفاضت روحه الطاهرة، وهو علي هذا الحال. خيم صمت جليل علي الجميع ترددت أصداؤه علي المكان، لم يقطعه سوي صوت أحد زملاء الرحلة: الفاتحة لروح الشهيد، وكل شهداء مصر العظام. قرأناها، صعدنا إلي الحافلات التي قفلت عائدة في رحلة عكسية، لم نكن نفس الأشخاص الذين عبروا في الظهيرة وعادوا لحظة الغروب. لسنا نحن، تحولات كانت تحتاج إلي عمر كامل، دواخلنا تغيرت كما لم يحدث بعد ذلك أبداً، علي الأقل أتحدث عن نفسي، وكل الأصدقاء الذين لم تنقطع الصلات بيننا خلال مشوار الحياة، لم نكن بأي حال نفس الأشخاص الذين انطلقوا من القاهرة مطلع النهار، وأظن أن آثار اللحظة ظلت كامنة في كل ذرة من كياني بعد كل هذه السنوات، وإلا ما كانت تلك السطور. وثائق موسي صبري الثلاثاء 2 أكتوبر: موسي صبري أحد أكبر الأسماء في تاريخ الصحافة، شخصية خلافية، إلا أن الاختلاف معه سياسياً وفكرياً لا ينفي حتي من جانب الذين خاصموه اعترافاً بقيمته وأثره في المهنة، وكتابه »وثائق حرب أكتوبر« يبقي فريداً بين الكتب التي صدرت كمحاولات أولية للتأريخ لأعظم حروب العرب في التاريخ الحديث. وفي الذكري 93 لحرب أكتوبر المجيد تفاجئنا الزميلة العزيزة ثناء أبو الحمد رئيس تحرير »كتاب اليوم« بعدد خاص يحمل فصولاً مختارة من وثائق الحرب، التي لا يعرف عنها معظم الذين يستظلون بسماء الوطن إلا سطوراً قليلة في الكتب المدرسية، ثم معلومات بعضها مبتور، والآخر مشوش، بينما تحتاج تلك الأجيال إلي ما يعزز ثقتها وارتباطها بالوطن. مبادرة كتاب اليوم في حدود المتاح من حجمه شيء طيب، لكنه يبقي مجرد جهد يحتاج للبناء عليه، ليس فقط بإعادة إصدار طبعات أو أجزاء مختارة من كتب صدرت قبل عقود، وإنما بتحفيز الهمم، ودفع المؤرخين المتخصصين للسهر علي تقديم الجوانب التي لم يتم تناولها أو التركيز عليها حتي الآن. أدوار عدة لأبطال شاركوا في صنع النصر، وأحداث قدمها العدو من وجهة نظره وعبر قراءات لمؤرخيه تحمل مغالطات وتجاوزات لم تجد من يرد عليها مدعوماً بالوثائق التي آن الأوان للإفراج عنها وإتاحتها للباحثين، لتصدر في كتب ودراسات تأخرت كثيرا في الظهور للنور كشفاً للحقائق ورداً علي روايات مخلوطة بالكذب والتجاوز، حتي صار بعضها من المسلمات في غيبة الحقيقة! في العام القادم سوف نحتفل بإذن الله بذكري مرور أربعين عاماً علي النصر، ومن الآن وحتي حلول المناسبة أتصور جهوداً حثيثة من الباحثين المخلصين للوطن وللحقيقة تثمر كتباً تحتاجها المكتبة العربية التي مازالت فقيرة للغاية قياساً بما صدر بالعديد من اللغات خاصة العبرية والانجليزية حول الحرب، بينما أصحاب النصر غائبون عن الساحة! ما كان متاحاً لموسي صبري قبل ما يقرب من أربعة عقود كان يسيراً، ورغم ذلك انكب ليجمع مادة كتابه، واليوم فإن ثمة جهدا مشتركا بين من يملك الإفراج عن الوثائق، والمتعطشين لدراستها وعرضها لتقديم الحقائق والرؤية الصحيحة، لابد أن يسفر عن سلسلة من الكتب، وأتمني أن يكون لكتاب اليوم دور متميز في تبني بعض ما يصدر منها، ولا يلجأ لإعادة نشر ما صدر في طبعات عدة إلا باعتباره جانباً من تراث عزيز.