كأنها كانت أمس! زيارة العمر.. يراودنى حنينى إلى ثناياها وحناياها كلما مرت الأيام واقترب أكتوبر، وبدأ الاستعداد للاحتفال بأحد أمجد وأعظم أيام المصريين، ليصبح حلم عودة سيناء إلى حضن الأم مسألة وقت. سيناء التى كنت وجيلى لا نعرفها إلا على الخريطة فى حصص الجغرافيا ودروسها، الآن نتحرك فوق دروبها ورمالها بعد أن خضبتها الدماء الطاهرة، وتأكد للجميع «أن ما أخذ بالقوة لايُسترد إلا بالقوة». كان الشعار يتردد فى وجدانى وصحبتى حين أقلتنا الحافلات من أمام مقر منظمة الشباب المواجه للنيل فى قلب القاهرة إلى سيناء التى ما برحت مكانها - أبدا - فى قلب كل مصرى.يا إلهى.. ما كل هذه الأحاسيس والمشاعر المتداخلة المتمازجة المتماوجة: رهبة، فرحة، خوف، سعادة، فخر، و .. و.. وكان كل شاب منا يتأمل ما حوله فى صمت. فى صباح ذاك اليوم الصيفى من عام 1974، تحركنا مع بزوغ الشمس، وحين عبرنا القناة كانت تتوسط كبد السماء، لكننا لم نشعر بلسعات أشعتها الحارقة، بفعل فرحة غمرتنا وأقدامنا تطأ الأرض المحررة. أبطأت الحافلات فى سيرها حتى توقفت تماما.. بدأنا فى الهبوط، قلوبنا قبل أبصارنا شاخصة تستطلع جنبات المكان، تصول وتجول، وكأن كل منا يحاول أن يحتضن أقصى مساحة ممكنة ويضمها، حتى يتوحد مع الأرض والسماء وما بينهما. ..وفجأة ارتفع صوت جهورى صارم بالترحيب. كان ضابطًا برتبة النقيب، قدم نفسه: اسمه، سلاحه، مهمته. رحب بالشباب «مستقبل الوطن وذخيرته فى الحرب والسلام» - كما قال نصا- ثم تدفق حديثه عذبًا فى جمل متلاحقة تجمع بين الفخر والنشوة، يختار كل كلمة بعناية، يُبطىء أحيانا لاختيار اللفظ الأكثر دقة، وكأن صنعته الأدب لا القتال! أوضح لنا، وقد تحلقنا حوله فى دائرة مفتوحة، إننا فى أحد مواقع خط بارليف الذى نسج العدو حوله الأساطير، ثم سقطت معظم نقاطه الحصينة فى ساعات معدودات! برغم الحرص البادى فى كلمات الضابط، كان ما يقوله يتجاوز حدود الخيال، بطولات الواحدة منها تكفى لملء صفحات مجلد، مواقف بطولية مثيرة تغرى أى دراما بصياغة سيناريو لفيلم ملحمى و.. و.. وإنسابت كلمات الضابط كمجرى نهر تغذيه روافد بلا حصر. انهيار الثوابت! مرت سنوات، وعقود، على تلك اللحظة، غير أن ما دار خلالها - أو معظمه - مازال محفورًا فى الذاكرة، كنقش غائر من المستحيل محوه. تفقدنا النقطة الحصينة - بصحبة الضابط المرافق - ورأينا تجهيزاتها المهولة حتى يستطيع من يتحصنون بها البقاء فترة طويلة غير عابئين بحصار مفترض، وكان أقرب للفروض المستحيلة، لكن سقوطها السريع، هى وأخواتها، كان كفيلًا باسقاط ما هو أهم: نظرية الأمن الإسرائيلى، وأسطورة الجيش الذى لا يقهر! تحدث الضابط أكثر من ساعتين، لم يقطع استرسالة إلا بعض الأسئلة المستفسرة من جانب وإجابات قصيرة مركزة من جانبه: شرح كشف، أشار، تذكر، أوضح و.. و.. وفى كل الأحوال كانت كلماته تقطر صدقًا وشجاعة، حين تستدعى مواقف الرجال البواسل وتضحياتهم بالحياة رخيصة، حتى أنهم كان يتسابقون أيهم يفتدى، وأيهم ينال الشهادة قبل رفاقه، كلماته استدعت الدموع من مآقينا، حبسها البعض إلى حين، وغلبت معظمنا أكثر الأحيان. وحدتنا الدموع! قصة واحدة لم نستطع ونحن نستمع إلى تفاصيلها إلا ان نجهش فى بكاء شديد، حتى محدثنا لم يستطع أن يغالب دموعه، فتوحدنا. أشار الضابط إلى سلك مما يستخدم فى الاتصالات التليفونية، ثم قال: - هنا استشهد.. لمعت عيناه ببريق غريب، ثم واصل كان ضابط إشارة، لم يكمل الثلاثين من عمره، إنقطع الاتصال بين قيادة اللواء وإحدى كتائبه، طلب من القائد الإذن، انطلق فى مهمته، أداها على خير وجه، دفع حياته رخيصة، لقى ربه شهيدا. هكذا، فى جمل تلغرافية خاطفة لخص بطولة تكفى لكتابة رواية طويلة، أو صناعة أحد أفلام الحرب التى يُكتب لها الخلود. تطلع كل منا للآخر، وفى العيون أسئلة تبحث عن إجابات، تطوعت متسائلا: ماذا حدث بالضبط؟ ما هى المهمة التى انجزها البطل قبل استشهاده؟ تغيرت نبرة صوته، اكتسى وجه مرافقنا بغلالة رقيقة من الحزن النبيل، ثم انطلق يحكى: حين فقدت قيادة اللواء الاتصال بالكتيبة، كان لا بديل من تجاوز الموقف بأى ثمن، لضمان تنفيذ كل المهام المحددة فى الخطة، وكانت الدقيقة حاسمة، بل قد تقلب الأمر رأسا على عقب، وقبل أن يحزم القائد أمره، خرج من بين صفوف المقاتلين صوت كله إصرار إلى درجة التحدى قائلا: يا افندى. سيعود الاتصال فورا، فقط انتظر أمرًا بالتحرك. أقوى من النسيان! تسارعت أنفاس الضابط، وبدأ انفعاله واضحا للجميع، ثم واصل حديثه: بالفعل أصدر القائد قراره، وبعد أقل من ساعة عاد الاتصال، لكن ضابط الإشارة، الشاب البطل، لم يعد.. وإنشغل الجميع بسير العمليات وتنفيذ الخطة و.. و.. وعندما وصلنا إلى هنا.. صمت الرجل، احتبس صوته، إغرورقت عيناه بالدموع وغالب أحزانه ومضى يكمل: وجدنا الشهيد على صورة لن يستطيع الدهر مهما طال بى العمل أن يمحوها، يبدو أن العدو رصده وصوب نيرانه المباشرة باتجاهه، فأصيب إصابة قاتلة أفقدته القدرة على الحركة، لكنه ضغط على طرفى السلك المقطوع بفكيه، واستمات حتى يستمر الاتصال، وفاضت روحه الطاهرة وهو فى ذلك الوضع. ران صمت قصير على المكان، لم يقطعه إلا صوت أحد الزملاء: الفاتحة لأرواح شهدائنا. قرأناها، ثم صعدنا إلى الحافلات عائدين، غير أن دواخلنا تغيرت كما لم يحدث من قبل، لم نكن بأى حال نحن نفس الأشخاص الذين تحركوا من القاهرة مطلع النهار، حين بدأت الشمس رحلتها نحو الغروب، وأظن أن آثار الرحلة ظلت كامنة فى أرواحنا بعد كل هذه السنين وإلا ما كانت هذه السطور.