ان اختلاف الناس في عقائدهم، وفي أجناسهم وألوانهم بإرادة الله رب العالمين. وقد وضح القرآن الكريم ما قضته الإرادة الإلهية منذ الأزل من اختلاف الناس في عقائدهم، وذلك لحكمة يعلمها الحكيم الخبير، قال الله سبحانه وتعالي: »وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ« »سورة هود 811«، ولذلك خلقهم. ولا يكره الإسلام أحدا علي الدخول فيه، فهو لم ينتشر بسيف ولا عنف ولا اكراه، قال الله تعالي: »لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ« سورة البقرة »651«. فلو أراد الله توحيد الأديان لوحدها ولو شاء ان يجعل الناس أمة واحدة لجعلهم. الدين للديان جل جلاله ... لو شاء ربك وحد الأقواما ولقد شهد تاريخ الإسلام الحرص علي ترسيخ دعائم الوحدة الوطنية من فجر الإسلام فمنذ الهجرة النبوية كان أول عمل قام به رسول الله »صلي الله عليه وسلم« هو بناء المسجد النبوي لتوثيق الصلة بالله، وكان العمل الثاني هو المؤاخاة بين المهاجرين والانصار، وكان العمل الثالث وضع الوثيقة التي أبرمها بين المسلمين وغيرهم وهي صحيفة المدينة التي تعتبر أول وثيقة عرفتها البشرية لحقوق الإنسان، فعاهد غير المسلمين ان يكونوا مع المسلمين يدا واحدة في مواجهة اعدائهم، فأول من أقام نسيج الوحدة الوطنية هو رسول الله »صلي الله عليه وسلم« حين أعلن دستور المدينة، وقرر حقوق غير المسلمين كحقوق المسلمين في المواطنة. وطبق المسلمون دعائم الوحدة الوطنية بعد ذلك، فقرر الفاروق عمر رضي الله عنه ان لأهل الكتاب كفالة في بيت مال المسلمين، فقد روي انه مر بباب جماعة، فوجد سائلا يسأل، وهو شيخ ضرير كبير فسأله قائلا: من أي أهل الكتاب أنت؟ قال: يهودي، فسأله: ما ألجأك إلي ما أري؟ قال: اسأل الجزية والحاجة والسن، فأخذ عمر رضي الله عنه بيده إلي منزله وأعطاه، ثم أرسل إلي خازن بيت المال فقال له: انظر هذا وأضرابه فوالله ما أنصفناه ان أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم. انها صور مشرقة في تاريخ الإسلام توضح إلي أي مدي كانت الوحدة الوطنية أقوي ما يكون وقد طبق المسلمون تعاليم الإسلام في الحفاظ علي حقوق غير المسلمين لدرجة ان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تمسك باطلاق الاسري الذين كانوا في أيدي التتار من أهل الذمة مع المسلمين، فعندما أطلق قائد التتار أسري المسلمين فقط دون أسري أهل الكتاب لم يقبل شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال لقائد التتار: لا نرضي إلا باطلاق جميع الاساري من اليهود والنصاري، فهم أهل ذمتنا ولا ندع اسيرا لا من أهل الذمة ولا من أهل الملة، فحقق له قائد التتار ما اراد، واطلق جميع الأسري حين رآه مصرا علي ذلك. ونري صورة اخري من صور التسامح والحفاظ علي الوحدة الوطنية عند فتح مصر حيث علم عمرو بن العاص رضي الله عنه بخروج بنيامين هربا من عنف الرومان وظلمهم فأرسل من ينادي علي بنيامين ويدعوه إلي المجيء آمنا معززا مكرما، من أجل ان يدير شئون أهل ملته وجاء وتولي أمور اخوانه في أمن وسلام. وهكذا ظل المسلمون والأقباط يعيشون في مناخ أخوي آمن لا عنصرية فيه ولا طائفية فيه بل قامت بينهم الوحدة الوطنية راسخة القواعد، وعاش المسلمون والأقباط في أمن وسلام. وظل المسلمون مع غير المسلمين لا يعادي اتباع الإسلام اتباع أي دين آخر، بل ان الإسلام أمر بالايمان لجميع الأنبياء دون تفريق بين أحد منهم. قال الله تعالي: »قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَي وَعِيسَي وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ« سورة البقرة »631«. ونهي الإسلام عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن. قال الله تعالي: » وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ« سورة العنكبوت »64«. فواجبنا جميعا ان نحمي الوحدة الوطنية من أي محاولة سلبية تحاول هز بنائها، أو اشعال الفتنة الطائفية بين أي من عنصري الأمة. وليعلم كل متعصب يحاول اثارة الفتنة الطائفية بأنه لا يخدم قومه بل بالعكس انه يخدم اعداء الأمة الذين يتربصون بها الدوائر، والذين يسرهم كل السرور ان يروا الأمة في فرقة واختلاف لأن مبدأهم القديم هو: »فرق تسد« وإلي جانب هذا فعلي الجميع ان يعلموا بأننا ركاب سفينة واحدة، وسكان وطن واحد وأننا جميعا كالجسد الواحد إذا مس عضوا من أعضائه السوء سري التعب إلي سائر الأعضاء وركاب السفينة الواحدة إذا حاول احدهم خرقها فلن يهلك -فقط- من مارس الخرق بل يغرق كل ركاب السفينة. كما قال الرسول »صلي الله عليه وسلم«: »مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا علي سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في اسفلها إذا استقوا الماء مروا علي من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا؟ فلو انهم تركوهم وما ارادوا هلكوا جميعا، ولو انهم أخذوا علي ايديهم نجوا ونجوا جميعا«.