بينما كان يسير عبد الرحمن البنا في أحد شوارع وسط القاهرة، في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي، فوجئ بملصق علي الحائط يعلن عن مسرحية جديدة تقدمها فرقة "علي الكسار"، عن القائد الفاتح عمرو بن العاص رضي الله عنه، لم يصدق ما رأت عيناه وكأنه أصيب بصدمة، وتساءل في نفسه: كيف يجرؤ "علي الكسار" علي ذلك؟ تخيل الشاب المتحمس أن الفنان علي الكسار سوف يؤدي دور البطولة في المسرحية باعتباره بطل الفرقة، فكيف يجرؤ علي القيام بتمثيل دور الفاتح العظيم عمرو بن العاص، وهو الممثل الكوميدي خفيف الظل، الذي يثير ضحك جماهير المسرح بطريقته الخاصة، فهل أصبح فاتح مصر العظيم مادة للضحك والسخرية؟! غلي الدم في عروق الشاب المتدين، وانطلق إلي مكتب فضيلة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري، شيخ الأزهر في ذلك الوقت، وقد كانت بينهما صداقة، وروي له وهو غاضب قصة ما حدث، وطالبه بأن يتخذ موقفا حاسما، بحكم مسئوليته الدينية، بأن يأمر بمنع عرض المسرحية، احتراما للرموز والقيم والمقدسات الإسلامية، التي علي وشك أن تمتهن علي يد الفنان "المهرج" علي الكسار! كان شيخ الأزهر حصيفا وذكيا وعمليا، فهدأ من ثورة الشاب الغاضب، وطلب منه أن يذهب بنفسه إلي مسرح علي الكسار، ويحضر عرض المسرحية الجديدة، ثم يكتب له تقريرا بما رأي من مخالفات شرعية، حتي يتخذ قراره المناسب بناء علي الحقيقة، وليس علي الظن. هدأ عبد الرحمن البنا قليلا، واقتنع برأي الشيخ الظواهري، وذهب إلي المسرح وشاهد العرض كاملا، وعاد بغير الرؤية التي ذهب بها.. لقد اكتشف أن بطل المسرحية، الذي قام بدور عمرو بن العاص، ليس علي الكسار صاحب الفرقة، وإنما أحد الممثلين غير المعروفين، وأن دور الكسار هو خادم هذا الفاتح العظيم، وأن النص مكتوب بشكل جيد إلي حد كبير. كان هذا درسا بليغا من شيخ الأزهر للشاب المتحمس، مؤداه أن عليه أن يحكم بناء علي المشاهدة والعلم والبينة، وليس علي التخمين والظن والاحتمال، وما إن أبلغه بوقائع المسرحية وأدوار الممثلين فيها حتي ابتسم الشيخ الجليل، وكأنه يقول: كنت أعلم بذلك، ولكني أحببت أن تجرب بنفسك، وأن تحكم بناء علي العلم وحده. نقل عبد الرحمن الصورة بكاملها إلي شقيقه حسن البنا، منذ أن رأي الإعلان عن المسرحية في أحد شوارع وسط القاهرة، إلي أن ذهب بنفسه لحضور عرضها علي المسرح، وكيف تغير رأيه تماما في الموضوع، ثم إدراكه أهمية هذا الميدان في الدعوة إلي الله، فقال له البنا: يا عبد الرحمن .. هذا ثغر من ثغور الإسلام، فاجتهد ألا يؤتي من قبلك. فوجئ الشاب المتحمس بهذا التكليف من أخيه الأكبر وقائده في الدعوة، وهو تكليف يعرف قيمته وأهميته، وبدأ بالفعل يستعد لدراسة ومعرفة فن التأليف المسرحي، وكتابة السيناريو، وتصميم المشاهد، وأدوار الممثلين، وشئ عن الإنتاج والإخراج والديكور والإضاءة، وكل ما يتصل بالعمل المسرحي. واختار عبد الرحمن قصة عربية شهيرة من قصص الحب والغرام، لتكون موضوعا لأولي مسرحياته، وهي قصة "جميل بثينة"، حيث أنتجتها "لجنة تشجيع التمثيل" التابعة لوزارة المعارف العمومية (التربية والتعليم الآن)، وأخرجتها علي نفقتها الخاصة عام 1934، لما وجدت فيها من معان طيبة وقيم رفيعة"، ولاقت المسرحية نجاحا لافتا، وأصبحت موضع مقارنة مع درة أمير الشعراء "مجنون ليلي". وهكذا بدأ اهتمام الإخوان المسلمين عمليا بالمسرح بعد حوالي خمس سنوات فقط من نشأتهم، والحديث موصول بمشيئة الله.