محمد الشماع نظرة فاحصة إلي الواقع المصري منذ 52 يناير 1102، يوم انطلقت الصيحة الأولي للثورة وحتي أمس 03 يونيو يوم أقسم الرئيس المنتخب يمين الإخلاص لدستور لم يوضع بعد، تكشف ان التاريخ قد مشي في وادي النيل، كما اعتاد دائما فقد انتقلت السلطة من حزب السلطة إلي أكثر الأحزاب تنظيما وتجهيزا وتمويلا. وهكذا فلا مفاجآت علي مستوي الحقائق الأساسية، ربما قفزت كرة السلطة مرتين أو ثلاثا تضرب الأرض وترتفع في الفراغ لكنها في نهاية الأمر استقرت في حجر تنظيم الإخوان المسلمين، وبذلك فإن الدرس الأول المستفاد من الحركة الجماهيرية العظيمة التي اندلعت في يناير هي انه لا فهلوة في السياسة، وأن لعبة السلطة والثروة لها قواعد، فقد تعانقت السلطة والثروة منذ سبعينيات القرن الماضي ولايزال هذا العناق قائما لا يمكن فصله، فالحزب الوطني »المنحل« صاحب السلطة لمع في اعطافه أباطرة المال الحرام ومحدثو النعمة، ولا خلاف علي أن حزب الاخوان المسلمون يمتلك ثروة هائلة مكنته من تلقف السلطة التي جنحت يمينا ويسارا تائهة بين القوي الوطنية التي يملك بعضها نقاء القلب لكنه لا يمتلك ثروة تمكنه من استلام السلطة.. والنتيجة المترتبة علي ذلك ان السلطة لن تذهب أبدا للجماهير الفقيرة ولا للعمال ولا للفلاحين ولن يكون لسكان العشوائيات نصيب.. لقد أثبتت الأحداث انه رصيد سياسي لمن يملك المال ويسعي إلي السلطة، لذلك فإن من حسن النوايا ان نتصور ان أحدا سوف يحمل حلولا للفئات التي همشت نفسها فلم تبن تنظيمها السياسي، تلك حقائق سياسية يعاد إثبات صحتها علي ضفاف النيل، فحتي الآن لاتوجد برامج سياسية، تتعامل بجدية مع هذه الطبقات الشعبية. لكن ما سمعناه لا يتجاوز أرطالا من الوعود باللبن والعسل، ذلك خطاب سياسي نسمعه منذ أكثر من ثلاثين عاما وهاكم الحصاد احلام وردية تزداد حجما وواقعا مختنقا بالبطالة والعجز تتفاقم أوضاعه الاجتماعية فلا ينخدعن أحد بما يسمي بالكتلة الثالثة أو التيار الثالث، لم تستطع ان تؤثر في التحولات السياسية التي حدثت في الفترة الماضية، لأنها تملك من الزعماء أكثر من اللازم ولكل زعيم من هؤلاء الزعماء ذات أضخم من اللازم. وقد فشل هؤلاء الزعماء في أن يتكتلوا خلف مرشح واحد تاركين الساحة كي يتنافس فيها آخر رئيس وزراء من زمن مبارك، ورئيس حزب الاخوان المسلمين، وهو ما جعل المعركة السياسية فاقدة للمضمون فلم ينفعل بها إلا أقل من نصف الناخبين، وجاء الفارق بين كلا المرشحين ضعيفا لم يعط للفائز منهما نصراً حاسماً! وذلك ما جعل الشائعات تتراكم حول صفقات سياسية تمت في الدقائق الأخيرة وقبل إعلان النتيجة، وبصرف النظر عن مدي صحة هذه الشائعات فإن ما انتهي إليه الأمر في مصر هو رئيس حصل علي ربع عدد الناخبين.. وكتلة لا تهش ولا تنش وقفت حائرة واكتفت بأن تطلق علي نفسها التيار الثالث، وسلطة تشريعية مهمشة تنتظر من يسندها حتي تقف. وحقيقة حملها المشهد الأخير من مشاهد الحركة الجماهيرية التي جرت علي ضفاف النيل وهي ان السلطة انتقلت من تنظيم اسمه الحزب الوطني كان همه الأصلي هو المزاوجة بين السلطة والثروة وها هو يتقدم ليغترف نصيبه من السلطة وأيضا الثروة ولم يبق لما يسمي بالتيار الثالث إلا خالص العزاء. بعث مُعدّل للنظام القديم بعد ان تخلص من شرعية فاسدة وضارة، أفسدت وشوهت العمل الوطني في مصر متمثلة في نظام مبارك واذنابه وأعوانه ودوائر المنتفعين حوله. ذلك هو نتاج التحرك الجماهيري الذي حدث في 25 يناير الأن لايتضمن تغييرا عميقا يؤدي إلي نقل السلطة من طبقة إلي طبقة علي سبيل المثال ولا يعني نقل السلطة من الطبقة الرأسمالية إلي الطبقة العاملة، لكنه تعديل وتصحيح لمسار السلطة التي انحرفت إنحرافا شديداً علي يد مبارك وابنائه، وقد ترتبت علي هذه التحركات الجماهيرية ان تم افساح المجال أمام قوي الاسلام السياسي بشقيها المتمثل في الأخوان المسلمين والسلفيين، وكان الحصاد ايجابيا بامتياز رغم مظاهر الكآبة وخيبة الأمل التي يحلو للبعض ترديدها واصبحت الصورة علي الساحة الوطنية كالآتي: أولا: قامت السلطة السياسية المدنية بتعديل نفسها فاستبعدت كل شرائح الفساد واعتمدت الديمقراطية منهجا في مسارها السياسي، وانجزت انتخابات ديمقراطية تحت الاشراف المباشر للقضاء بشكل أثار احترام كل المراقبين. ثانيا: مع إفساح المجال للاسلام السياسي فإن حصاد تجربة الاخوان المسلمين اسقطت الكثير من الاقنعة التي كان يرتديها هذا الفصيل والذي كان دائما مايزايد في المسألة الوطنية ويزعم امتلاكه لحلول سحرية لأزمات الواقع المصري، فقد كشفت الممارسة السياسية ان الاخوان كانوا نصيرا وداعما قويا لما سمي بالتعديلات الدستورية المربكة التي قادتنا الي الازمة السياسية الحالية ولم يتورعوا عن خداع الشعب حينما صوروا له ان الموافقة علي تلك التعديلات سوف تجلب الاستقرار، وان معارضة هذه التعديلات هي معارضة لشرع الله، وبعد حصولهم علي الاغلبية في البرلمان لم يقدموا مازعموا أنهم يملكونه من حلول جسدها شعارهم »الاسلام هو الحل« بل ان غاية ماقدموه لهذا الشعب هو قوانين تفصل تفصيلا علي غرار تفصيل برلمان فتحي سرور دون فارق جوهري بين هذا وذاك وتعقيدات اضيفت الي مسألة تشكيل اللجنة التأسيسية لوضع الدستور، فقد اصر الاخوان علي التكويش علي هذه اللجنة التي ستضع دستورا، يرسم ملامح الدولة المصرية في العقود القادمة دون ان يراعوا طبيعة التركيبة الوطنية المصرية وهو ما أدي في النهاية الي فشل سياسي ذريع وكل ذلك يعكس عجز الاخوان عن الانجاز السياسي وعدم امتلاكهم لأي مهارة سياسية تؤهلهم لقيادة الفصائل الوطنية فقد خاصموا الجميع، وتأكد للرأي العام انهم لايملكون حلا ولاربطا علي عكس ما كانوا يزعمونه من امتلاك حلول لقضايا السياسة والاقتصاد. اما السلفيون الذين قضوا عمرهم في تأييد النظام السابق والتطبيل له ولم يعرف عنهم اي مواقف سياسية مناوئة للظلم والفساد الذي صاحب نظام مبارك، فقد قفزوا بسرعة الي الساحة السياسية ليدخلوا مباشرة الي المجلس التشريعي ودون ان يمتلكوا برنامجا ولا منهجا ولاخبرة سياسية، وذلك مما أربك تصرفاتهم وفضح سطحيتهم، فلم نسمع عنهم في المجلس انهم ناقشوا قضية جادة. بينما ما سمعناه يرقي الي مقام الفضائح التي تعكس غيبوبتهم عن الواقع.. فإن التجربة السياسية التي مرت بها البلاد في تقديري هي تجربة ايجابية لانها لم تنجز شئيا مذكورا علي المستوي السياسي، فلا دستور وضعنا ولاقوانين ذات أهمية صدرت عن المجلس التشريعي المحكوم بعدم دستوريته. وكل ذلك الفشل يعود في مجمله الي اننا سلمنا قيادتنا التشريعية الي جماعة الاسلام السياسي، وذلك درس تنتفع به الأمم لان الفشل في الانجاز طوال هذه الفترة الماضية قد كشف لنا الكثير من اساليب الخداع السياسي وكان اثر التجربة علي الوجدان الشعبي اكثر بكثير من الكتب والمقالات والندوات التي انتقدت اساليب هذا التيار وتناقض سلوكياته فإن كان هناك عجز في الانجاز فإن هناك ايضا ثراء في التجربة الوطنية وذلك مكسب حقيقي، فالأمم لاتتعلم الا من اخطائها وقد اخطأنا وتعلمنا ونأمل ان نستأنف تجربتنا السياسية وقد تخلصنا تماما من فساد النظام السابق ومن المزايدات السياسية التي رددتها بعض الاحزاب الدينية مستغلة مشاعر مواطنينا وثقتهم. لذلك فإنني شديد التفاؤل بالمرحلة القادمة التي سوف تفرز لنا قوي سياسية حقيقية وبرامج سياسية محددة. ولنبدأ بالدستور اولا ثم الانتخابات البرلمانية »فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ماينفع الناس فيمكث في الأرض«.