اقتربت مني كتلة الرجل بهدوء وكأنه يزحف علي بطنه الكبير، وقدم لي نفسه بصفته الدبلوماسية قنصلا لإسرائيل، جري ذلك في صيف عام 3891 بمدينة طولون الواقعة في الجنوب الفرنسي، خلال احتفال أقيم بمناسبة تدشين كنيس قبطي جديد بالمدينة دعيت إليه شخصيات محلية رسمية وبعض أعضاء القنصليات المتمركزة في مرسيليا. وبدون مقدمات سألني الرجل ببراءة قاتل يخطط ليسدد ضربة إلي ضحيته قائلا: (هل لديكم أقباط كثيرون في مصر؟). ورغم تعجبي من السؤال، أجبت المبعوث الصهيوني بصحة ما ذهب إليه مؤكدا له بأننا كلنا قبط في مصر!... ولم استغرب فترة السكون التي تلت ردي والتي حاول الرجل خلالها أن يحلل ما سمعه مني، فقد كانت تلك اللحظات كافية لتبين دهشته من رد لم يلق هوي في نفسه... فتساءل بتعجب مصطنع قائلا: ولكن كيف يكون ذلك والغالبية العظمي من أهل مصر هم من المسلمين؟ فما كان مني إلا أن أحلت الداخل بالسؤال الخبيث إلي موجز في التاريخ مذكرا إياه بأن كلمة "قبطي" من الناحية اللغوية المجردة تعني "مصري" بغض النظر عن عقيدته، وأن المؤرخ اليوناني هيرودوت الذي زار مصر في القرن الخامس قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام، هو الذي أطلق عليها مسمي (ايجيبتوس) وعرف ساكنو الإقليم منذ ذلك الحين (بالجبط أو القبط) وأصبح اسمها في اللغات الأجنبية الراهنة (إيجيبت)، فكلمة قبطي تدل علي جنسية ساكن مصر لا علي ديانته، وعليه فكل أهل مصر هم "قبط" بالمعني التعريفي البحت المتصل بجغرافيا المكان لا ديانة السكان. ونوهت للسيد القنصل بسبق فشل من تصدوا في الماضي لإثبات نظرية النقاء العرقي، وفي أن يكون هناك جنس ما منزه عن خلط مع غيره من الأجناس. وكما اقترب الممثل الصهيوني متأهبا، ابتعد متأرجحا، بعد أن خاب سعيه في أن يتلقي ما يشبع ارثا تاريخيا في محاولة بث الفرقة في وطن انصهر أبناؤه في جسد واحد، حتي ولو بقي بعض منهم معلقين بترهات ماض ولت ظلاله القاتمة في طيات صفحات تاريخ ذهب إلي غير رجعة. وربما لا يعلم هذا الإسرائيلي ومن هم علي شاكلته إن المسلمين تحكمهم ضوابط إيمانية لا يمكن الخروج عليها تجاه إخوانهم من مسيحيي مصر، بل وغيرهم، في مقدمتها توصية الرسول الكريم صلوات الله عليه وسلامه للمسلمين بأهل مصر خيرا إذا ما فتحها الله عليهم، واصفا إياهم بأن لهم نسبا وصهرا فيها، فالنسب من جهة هاجر أم إسماعيل عليه السلام جد العرب العدنانية، والصهر من جهة مارية القبطية أم إبراهيم بن محمد صلي الله عليه وسلم. ويجئ ضمن هذه الضوابط عهد الأمان العظيم الذي أرسله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لدير سيناء (سانت كاترين)، وتزكيته لآخر مماثل تجاه قبط مصر من قبل عمرو بن العاص جاء فيه: (هذا ما أعطي عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان علي أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وبرهم وبحرهم لا يدخل عليه شئ ولا ينتقص«، والذي كان يوصي المسلمين في خطبه بمراعاة الأقباط والمحافظة علي حسن جوارهم قائلا لهم »استوصوابمن جاورتموه من القبط خيرا«. وقديما قال شاعر، نحن المصريين بمسلمينا وأقباطنا، لنا قمر واحد يؤنس ليلنا، نحمد الخالق علي خيرات شمسنا، ونيل خالد يروي عطشنا، وأزهار وضاءة تسعد قلوبنا، وطيور غناءة تسكن أرضنا، والجمال خلقه الله لنا كلنا، فأين هي الفرقة بيننا.