فضيلة الشيخ محمود عاشور »ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون« من الأشياء اللافتة في الآونة الآخيرة تفكك البنيان الأسري وحدوث الخلافات والمنازعات بين الازواج والزوجات إلي حد التقاتل والتخاصم وكثرة حالات الطلاق في الاشهر الاولي او السنوات الاولي للزواج مما يشكل خطرا علي البنية الاساسية للمجتمع، فالنشء يعيش هذه المشاكل فإما ان تلقي به الزوجة الي زوجها وتبحث عن زوج آخر واما ان يتركه الزوج لامه ثم تحدث المشاكل علي رؤية الصغير وتصل المنازعات الي المحاكم فتحكم بالرؤية مرة كل اسبوع او كل اسبوعين او كل شهر فينشأ الطفل ممزقا حائرا لا يعرف إلي من ينتمي وتترسب في نفسه عقد هذه الخلافات فيشب كارها للحياة وللاسرة وللدنيا جميعا لانه عايش منذ بدايته هذه المعارك وتلك الخلافات والصراعات.... وهناك ضرورة لتربية المقبلين علي الزواج علي الحياة الاسرية الصحيحة والتي تدوم وتبقي وتستمر.... وتظل الزوجة شريكة حياته وشريكة عمره تشاركه بأساءه وضراءه وتعيش معه في كل الظروف تشاركه شظف العيش ولينه كما تشاركه سراءه وسعادته وهناءه. ولو اننا اتبعنا منهج الاسلام وسرنا في طريقه لكانت حياتنا أسعد وأسرنا أهنأ وتحقق للاسرة الاستقرار الذي نأمله.. والسعادة التي نبتغيها والاستمرار الذي هو هدف الزواج. فالاسرة هي الخلية الاولي في جسم المجتمع... وهي لبنة من لبنات بنائه فإن لم تكن الخلية سليمة صحيحة واللبنة قوية متماسكة فانه لا ينتظر من الجسم ان يقوي ولا من البنيان ان يتماسك ويستقيم. لذلك عني الاسلام عناية خاصة بتكوين هذه الخلية »وهي الاسرة« وأحاطها بضمانات قوية منذ بدء نشاطها وفي ادوار تكوينها ونمائها... حتي يضمن بذلك ايجاد الاسرة القوية المتحابة، المتضامنة السعيدة ويضمن بالتالي وجود المجتمع القوي السعيد. والاسرة تبدأ من زوج وزوجة وهما حجر الاساس في بناء الاسرة او التربة التي تنشأ فيها شجرة الاسرة وتثمر وتنمو... وعلي قدر صلاحيتها يكون النبت الذي ينبت والثمرة التي تنتج ومن اجل هذا يوجه الاسلام عناية خاصة لايجاد هذا الاساس وتوفير هذه التربة. فيقول المولي عزل وجل: »ومن آياته ان خلق لكم من انفسكم ازواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون« »الروم 12«. المودة والرحمة فنري في سياق الآية ان الزواج سكن والسكن يعني الطمأنينة والهدوء والاستقرار والراحة ولذا قال المولي »لتسكنوا إليها« ولم يقل لتسكنوا فيها ليظل كل من الزوجين مستودع آمال الآخر وآلامه موطن سره وما يعتل في نفسه لتستقيم حياتهما إذا اظلتها المودة والرحمة وعاشا في حب دائم وفي تعاطف ورحمة لا تنقطع. كما يرشدنا الاسلام ان نحسن الاختيار ويؤثر لنا ان يختار الزوجة الصالحة التي تربت علي قيم الدين واخلاق الاسلام فيقول الرسول صلي الله عليه وسلم: »تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس« كما يؤكد علي ذات الدين والخلق فيقول: »فاظفر بذات الدين تربت يداك«. ثم يوجه ولي امر الفتاة او والدها ان يختار لها زوجا صاحب دين وخلق ويحذر كل من يترك الدين والخلق ويؤثر عليها المال او الحسب فيقول صلي الله عليه وسلم: »إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير«. وضرب لنا رسول الله صلي الله عليه وسلم وصحابته والتابعون رضوان الله عليهم امثلة حية في هذه الناحية حيث كانوا يفضلون المولي صاحب الدين والخلق والسبق للاسلام علي القرشي الغني، وقد عرفنا من التاريخ ان سعيد ابن المسيب- رضي الله عنه- آثر لابنته تلميذا له فقيرا علي ولي عهد المسلمين ابن الخليفة آنذاك لانه رأي ان تلميذه أسلم دينا وأقوي خلقا. ولم يقف الاسلام عند هذا الحد في تكوين الاسرة بل واصل رعايته لها فأوصي كلا من الزوج والزوجة بحسن المعاشرة وأوصي الزوج بان يرفق بزوجته ويلين لها جانبه فإن المرأة »خلقت من ضلع أعوج فإذا أنت ذهبت تقيمه كسرته فاستوصوا بالنساء خيرا«. الزيجة السعيدة كما اوصي الزوجة ان تكون سندا لزوجها وراعية أمينة علي بيته حافظة لشرفه وكرامته وفي ظل هذه الزيجة السعيدة الصالحة والبيت الهانيء الهاديء المستقر ينشأ الاولاد ويشبون ومن الطبيعي ان يمد الاسلام رعايته لهذا النبت الجديد فينظم له امر رضاعته ونفقته وحضانته، وتعليمه وتربيته ويضع لذلك كله التشريعات الملزمة التي تكفل للاولاد حسن النشأة حتي يكونوا اعضاء صالحين في مجتمعهم فيقول الرسول صلي الله عليه وسلم: »الزموا أولادكم وأحسنوا أدبهم«. وحرم علي الآباء ان يفرقوا في المعاملة بين الابناء او يفضلوا بعضهم علي بعض.... لان التفضيل يثير الحزازات في النفوس ويفكك روابط الاسرة وحين جاء للنبي صلي الله عليه وسلم احد اصحابه يريد ان يؤثر بعض اولاده بشيء من ماله ويشهد الرسول علي ذلك رفض الرسول الشهادة وقال »أشهد عليه غيري فإني لا أشهد علي جور« وقال للرجل »أتحب ان يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم.. فقال له الرسول صلي الله عليه وسلم »اتقوا الله واعدلوا بين اولادكم«. ثم لم يهمل الاسلام علاج المشاكل التي قد تنشأ بين الاسرة بل وضع لكل مشكلة علاجها وهدفه من ذلك توفير الجو الصالح لتسير الاسرة في حياتها هانئة وادعة وينشأ الاولاد نشأة كريمة صالحة. وحين يصل الاولاد إلي سن المعرفة يوجههم الاسلام الي طاعة الوالدين والاستماع لنصحهما وتوجيههما لما فيه من خير لهم واحسان معاملتهما والبر بهما تقديرا لما تحملاه من متاعب ومصاعب وآلام في سبيل تربيتهم وجعل الاساءة اليهم من اكبر الذنوب التي تلحق عقبوتها الابناء في الدنيا قبل الآخرة واوصي الرسول صلي الله عليه وسلم ان يحسن الاخ معاملة اخوته واخواته وكل الذين يعيشون في محيط الاسرة مراعاة لحقوق القرابة وتدعيما للروابط بين الاسرة... فقد روي ابو داود انه قيل: يا رسول الله من أبر قال: »أمك وأباك وأختك وأخاك ومولاك الذي يلي ذلك هو واجب ورحم موصولة«. دائرة الميراث ولم يعمل الاسلام علي توسيع دائرة الميراث في الاسرة عما كان عليه قبل ذلك إلا كوسيلة من وسائل تدعيم الروابط وتقوية الصلات بين افراد الاسرة ونشر الحب بينهم. فنزل القرآن ينظم الميراث. ويحدد المستحقين له وأنصبتهم في التركة في آيات متعددة منه ثم لم يهمل بقية افراد الاسرة الذين لم يجعل لهم نصيبا في الميراث. بل اوصي ببرهم واعطائهم شيئا من التركة ارضاء لنفوسهم واستدامة للروابط العائلية وتقويتها بينهم. فقال تعالي: »وإذا حضر القسمة أولوا القربي واليتامي والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا«. »النساء 8« وبجوار ما قرره من المشاركة في الميراث أوجب ان يتضامن افراد الاسرة ويحمل الغني منهم الفقير ويعينه علي اعباء الحياة كما اوجب علي الوارثين أن يتحملوا مشتركين الديات... التي تجب علي واحد منهم في القتل الخطأ حتي يكون مظهر التضامن تاما في الاسرة في حالتي المغنم والمغرم. والاسلام حين يقرر ذلك ويوصي به لا يجعله مجرد علاقة مادية دنيوية بين القريب وقريبه بل يجعله من طاعة الانسان لخالقه ورازقه يثيبه عليها حتي اللقمة يضعها الرجل في فم امرأته صدقة. وحسن تربية الاولاد وكفالتهم وهو امر فطري وغريزي يثيبه الله عليه من ذلك نعرف مدي عناية الاسلام بالاسرة وحرصه علي سلامتها وتوفير السعادة لها. وستظل الاسرة الاسلامية بخير وسعادة طالما حرصت علي التوجيه الاسلامي لها واخذت به في حياتها.. ففي ظل الاسلام دائما نحس الامن والراحة والطمأنينة والاستقرار والسعادة فإننا نري من مظاهر الحياة الاسرية في الغرب وتفكك الروابط فيها وسيطرة الروح المادية علي علاقة افرادها بعضهم ببعض وهجوم هذه الروح المادية وزحفها علي اسرنا في الشرق ما يجعلنا نوصي المسلمين بالحرص علي تنظيم الاسلام لشئون الاسرة والمحافظة علي العلاقات الروحية التي اوجدها الاسلام بينها حتي نسعد بذلك في دنيانا وآخرتنا. لقد بلغ من حرص الإسلام علي البناء السعيد للاسرة اننا وجدنا الرسول صلي الله عليه وسلم يصدر كثيرا من الوصايا والتوجيهات للراغبين في الزواج تضمن لهم بناء البيت السعيد منها قوله: »ما استفاد المؤمن بعد تقوي الله عز وجل خيرا له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته. وان نظر إليها سرته وان اقسم عليها ابرته. وان غاب عنها حفظته في نفسها وماله«. تزوجوا الولود الودود وقوله صلي الله عليه وسلم: »تزوجوا الولود الودود« وذلك حين جاء رجل وقال له: اني احببت امرأة ذات حسب ونسب ومال. الا انها لا تلد افأتزوجها.. فنهاه صلي الله عليه وسلم لما يعلمه من ان الولد هو غاية كل زوجين، وبدونه يتخلخل بناء الاسرة ويحصل الفراق غالبا.. ولذلك وجدنا الرسول صلي الله عليه وسلم يقول في حديث آخر: »سوداء ولود خير من حسناء عقيم« لان الرغبة في الولد امر طبيعي في الانسان محافظة علي ذكره وبقاء اسرته كما تتوخاه وتحرص عليه الامة كلها حفظا لكيانها بين الامم، وهذا ليس معناه الإعراض العام عن العقيم فان لها من يطلبها ويرضي بها. ولم يكتف الرسول صلي الله عليه وسلم بالنظر إلي النسل او بالنظر اليه من ناحية الكم دون الكيف بل نجده يحرص علي حسن الأنسال خلقا وجسما.. فمن ناحية الخلق والتنشئة الطيبة اوصي بالزواج من المرأة الصالحة ذات الدين التي تحرص علي تربية اولادها وتنشئتهم نشأة صالحة. كما اوصي بالعناية بتربيتهم وحسن تأديبهم. ومن ناحية الجسم فهناك وصية له صلي الله عليه وسلم: يمكن ان نعتبرها قاعدة عامة في الحرص علي سلامة الابناء من كل ضعف او مرض وراثي يمكن ان يرثه الابناء من الآباء وذلك حين اشار إلي اختيار الزوجة من غير الاقارب، وقال معللا ذلك: »اغتربوا لا تضووا« والمعني الظاهر لهذا الحديث ان علي الانسان ان يتزوج من غير قريباته حتي لا يضعف نسله وليس هذا الامر علي سبيل الالزام من ناحية الحل والحرمة لان الله سبحانه وتعالي حدد القريبات اللاتي لا يصح الزواج بهن اصلا اما غيرهن من القريبات فهن اللاتي يتجه إليهن التوجيه النبوي السديد. وقد مر علي هذا التوجيه النبوي زمن طويل حتي جاء علماء الوراثة وأثبتوا صحة ما وجه إليه النبي صلي الله عليه وسلم مما يجعلنا نقول بصدق ان العلم الحقيقي الصادق يتفق دائما مع الدين ويكون في خدمته. »وقل ربي زدني علما«